مقالات

دور الخطابات السياسية في “دمغجة الشعوب”

ليلى الهيشري
تتجلى مظاهر الرقي  في عمق مبادئ الإسلام الحنيف في الدعوة إلى إرساء مظاهر التسامح تجاه أصحاب العقائد الأخرى وخاصة لمن عرفوا بأهل الكتاب من يهود ونصارى، ولا ضير في قيام رئيس للجمهورية بزيارة قداس للمسيحيين الموارنة بمناسبة عيد الميلاد حسب عاداتهم المسيحية، ولكن من طباع الساسة البحث عن مناورات سياسية تقيهم برد الانتقاد ونار الثورة عبر خطابات تحمل مزاعم تفتح لهم الآفاق في عقول ضيقة الفهم والتأويل وسهلة الدمغجة، هذا ما عهدناه قبل الربيع العربي، ولكن أن تتواصل هذه الممارسات في ظل فترة ما بعد الثورة !!!
ظهر مصطلح الديماغوجيا قديما من خلال ما جاء في تعريف أفلاطون للنظام الديمقراطي الناشئ آنذاك، حيث اطلق مصطلح “قائد الشعب” على دعاة الديمقراطية الذين يعتمدون في تقنيات الإقناع، خطابا منمقا يتضمن عبارات رنانة يستخدمها بعض السياسيين في التأثير على شعب وصفه بالجاهل، سعيا وراء إعدام قدرته على تشكيل رأيه في مسألة ما، ومن هنا دأبت الأوساط السياسية على استعمال المصطلح، فظهرت الديماغوجيا التي تعتبر حسب بعض النظريات السياسية عملية لتسويق الفكرة بغير حقيقتها، واتخذت عملية الدمغجة شيئا فشيئا مجسما واقعيا تمثل في الخطابات السياسية، فكانت الوسيلة الأكثر شيوعا في التأثير على الشعوب حتى أنها عرفت بصانعة أباطرة الرومان في العصر الذهبي للحقبة الرومانية.
تنوعت الخطابات المدمغجة للشعوب بين سياسي مجرد وديني مسيس، وتواصل اعتبار “سحر الكلام” حسب تعبير ماكيافيلي من أنجع الطرق المؤدية إلى النجاح والشهرة، فلم يتغير الوضع كثيرا في الزمن المعاصر، إذ اكد العديد من المحللين السياسيين على استمرارية اللجوء إلى الخطابات السياسية المتماشية والتطورات الإعلامية والتقنية المواكبة للحداثة، من خلال خلق استراتيجيات اكثر دقة وخبثا من خلال ما يعرف  بنظرية الإلهاء القائمة أساسا على إبقاء الرأي العام مشغولا بمشاكل عرضية وثانوية وليدة عفوية الواقع أو بتسريبها عمدا، في محاولة من النخبة المسيطرة الاستئثار بالمسائل الهامة كالقرارات السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية الملحة وإبعادها عن متناول العامة.
وقد يعتبر خطاب السيسي بمناسبة حضوره لاحتفال الأقباط يوم 6 جانفي 2017 بميلاد المسيح حسب تقويمهم الخاص في مقام الكاتدرائية الشهيرة في مصر، مثالا حيا لتلك الخطابات المدمغجة، أعلن من خلاله عن مجموعة من القرارات التي شملت هذه الأقلية الدينية المتواجدة في مصر منذ قرون تخللها تأكيد على استكمال عملية ترميم الكنائس المتواجدة في أنحاء الجمهورية المصرية، فضلا عن تعهده مستقبلا ببناء أكبر كاتدرائية مجاورة لأكبر مسجد في العاصمة الإدارية الجديدة التي لازالت في طور البناء. لكن وجب الإشارة إلى نقطة هامة تبرر تلك الوعود، فلم يكن هذا الخطاب بمعزل عن الأحداث الأخيرة التي عاشها مسيحيو مصر وهو الانفجار الذي وقع بمحيط الكاتدرائية المرقسية في منطقة العباسية بالقاهرة يوم 11 ديسمبر 2016، والتي راح ضحيتها 26 بريئا.
وفي سياق هذا الخطاب، جدد السيسي وعده للمسيحيين بترميم جل الكنائس بعد تذرعه سابقا بالظروف الإقتصادية المصرية لتأجيل المشروع، وتغيرت المعادلة بمجرد حصول الانفجار ليقوم في فترة وجيزة بإنجاز ما وعد به وكأن الميزانية قد عرفت إنتعاشة فجئية مجهولة المصدر، كما أثني على الدين المسيحي واعتبره مساويا للدين الإسلامي، وتعهد بتوفير الحماية والاستقرار.
يعود بنا هذا الخطاب إلى عهد الديكتاتورية والحزب الواحد، زمن الانتخابات الرئاسية أو عندما يراد إسكات حناجر الأحرار وصناع الثورة أثناء وقوع بعض الاضطرابات الاجتماعية، فيجدون ضالتهم في الخطابات الشعبوية المحركة للمشاعر الأبوية والوطنية والانتماء العقائدي لهذه الفئات ذات التمثيل الديمغرافي الضعيف أو الفئات المسكونة بمعضلات الفقر والجهل والخوف، فيتم التركيز على بعض المنح والإعفاءات الضريبية أو وعود التشغيل، وان كانت في الواقع حقا لكل مواطن، فأمنه ودينه وحاجياته الضرورية هي حقوق وليست هدايا.
ولم يختلف خطاب السيسي عن خطاب نظيره السبسي عندما ألقى رئيس الجمهورية التونسية، بخطاب مرتجل، ضمنه حزنه وأسفه على تدهور قدرة المواطن التونسي الذي لا يستطيع توفير اللحوم لعائلته، ولم يكن ذلك الخطاب سوى مناورة سياسية آنذاك لاستقطاب أصوات الطبقات الفقيرة والمتوسطة لكسب أصواتهم في الانتخابات الرئاسية.
ولن اكتفي بهذين النموذجين بل توجب الحديث عن خطابات أكثر حدة وخطورة، المتمثلة في خطابات بعض التنظيمات الشرقية كحزب الله مثلا، وهو أبرز مثال على تأسيسه لدولة داخل الدولة الكبرى وهي لبنان.
تعد خطابات ممثلي حزب الله وخاصة خطابات السيد حسن نصر الله، من الخطابات السياسية المشحونة بالعنف والتجييش الممنهج لإبقاء شباب الطائفة الشيعية اللبنانية في حالة من الجاهزية العسكرية، ممتثلين صاغرين لوعود بالجنة والمناصب العسكرية والحماية الاجتماعية والمالية والأمنية، وهم في الحقيقة خدم طائعين لمصلحة إيران في منطقة الشرق الأوسط، الراعي الرسمي لكل تلك الوعود.
ومن هنا نتبين تنوع الخطابات السياسية حسب طبيعة المخاطب وعقل المتلقي، ولكن استغرب عدم وجود أي تغيير يذكر في أوساط عبرت عن إيمانها بالحرية ورفضها للولاءات الراديكالية المستبدة، ولازالت العقول تخضع للأسف لدمغجة سياسية توجه اهتماماتها إلى ما تستهويه غرائزها الحياتية من بحث عن الوعود التي تمس من نقاط ضعفهم، وهي مستلزمات الحياة الضرورية، فان تنوعت الخطابات السياسية، فهي في نهاية المطاف مجرد إعلان إشهاري عن برامج اجتماعية واقتصادية يقترح فيها على الحريف اختيار المنتوج دون إبداء للرأي، على أن يكافأ بالهدايا متى استسلم لإملاءات السياسي الماسك بدواليب الحكم  كما هو الحال بالنسبة للسيسي الذي يسعى لإرضاء مختلف الفئات الاجتماعية وإخراجه في صورة الحاكم الأمثل لمصر في محاولة لشرعنة الانقلاب، أو لإنجاح حملة انتخابات كما هو بالنسبة لباجي قايد السبسي، أو ربما لدواع أكثر خطورة كما هو الشأن في لبنان، بلد الفسيفساء العقائدية التي تضم رسميا 18 طائفة دينية، والمتعلقة بتنفيذ أجندات أجنبية، كأن الماضي لم يكن بالدرس المفيد لهم، ذلك التاريخ الدموي الذي تسببت فيه بعض الخطابات المتطرفة في إشعال فتيل حرب أهلية، ورغم ذلك تتواصل إثارة النعرات الطائفية عبر نفس هذه الخطابات إلى الآن.
أتساءل عن كيفية الخروج من مصيدة الدمغجة عبر هذه الخطابات السياسية والتي لا تعبر إلا عن طموح فئة ما أو مطامع شخص واحد فقط، فيستدرج من خلالها ملايين المواطنين بسذاجتهم واستسلامهم لمكبلات الحياة، تاركين مصيرهم في أيدي مجهولين يأخذونهم حيثما أرادوا.
قد يبرر التاريخ ربما فترة ما قبل الثورات ولكن ماهي مبرراتكم اليوم، يا شعوب الثورات ودعاة الحرية؟ لماذا تثقون في الوعود الكاذبة رغم معايشتكم لتجارب سابقة سقتكم الذل وباعتكم قصور الرمال الوهمية؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock