مقالات

إصلاح الدين أم إصلاح الوصل بين التاريخي وما بعده؟

أبو يعرب المرزوقي
يراوح دعاة الإصلاح بين حدين:

  1. مراجعة ما شاب العقيدة والشريعة من تحريف بسبب الانحطاط
  2. وإصلاحهما هما نفسيهما بالمقارنة مع المسيحية خاصة.

وقد نجد بين الحدين مزيجا منهما مع غلبة هذا أو ذاك فتكون الدعوى مربعة الحدان والوسطان لكن الأصل في ذلك كله هو المقارنة بين واقعين حضاريين.
فلولا صعود قوة الغرب وضمور قوة المسلمين لما حدثت هذه المراوحة بين الحدين والتوسطين وإذن فالأصل هو تعليل وضعنا ووضع الغرب بالمرجعية الدينية.
ودون أن أشكك في دور مرجعية الأمم الروحية فإني لا اقبل أن يقتصر الأمر عليها لتعليل أوضاعها الحضارية ثم إن الموقفين الحدين كلامهما متناقض ومناقض لرديفه.
كلاهما لا ينتهي في الحقيقة إلى المرجعية علة بل إلى فهمها وتأويلها فتكون العلة ما وراء المرجعية أعني ما يجعل فهمها وتأويلها مصدر قوة أو ضعف.
وعندئذ يصبح السؤال هو بالمقابل ما الذي يجعل مرجعية جماعة من الجماعة تكون مصدر قوة ومصدر ضعف في آن أو ما الذي يجعلها تتردد بين الموقفين؟
وهبنا وضعنا الطبيعة الدينية للمرجعية بين قوسين واقتصرنا على أنها مرجعية حضارية عامة ولنسأل: ما علة نقلة الموقف والرؤية ازدهارا وانحطاطا؟
فيصبح السؤال مضاعفا: دور المرجعية الحضارية عامة ثم دور المرجعية إذا كانت من طبيعة دينية. لكن ماذا لو تبين أنها دينية دائما إيجابا أو سلبا؟
وعندئذ يصبح السؤال: ما الديني الذي يعتبر شرط المرجعي سواء هذا الديني موجبا (يثبت) أو سالبا (ينفي) ما به يؤسس الديني المرجعي عامة في كل حضارة؟
وعلينا أن نسأل بعد ذلك عما يضيفه وصف المرجعية بكونها دينية انفهم طبيعة ما يتعلق بإصلاح ما تضيفه هذه الصفة للمرجعية المؤسسة للموقف والرؤية.
التاريخ يكذب كل الفرضيات التي تفسر الصعود والنزول الحضاري بالدين: جميع الحضارات صعدت ونزلت بتطبيق دينها وبعدم تطبيقه ما يعني أن العلة أعمق لتعلقها باستعماله الذي يجعله مؤثرا فيهما إيجابا أو سلبا.
ومن ثم فالإصلاح لا يتعلق بالدين عامة بل بما في الدين من علاقة بشروط الصعود والنزول أو بما يجعله مؤثرا في صعود الحضارة ونزولها: مربط الفرس.
ومعنى ذلك أن ما يحتاج إلى الإصلاح هو هذا الذي يجعل الديني أو ما بعد التاريخي مؤثرا في التاريخي من فعاليات الإنسان الحضارية: ذلك هو مطلبنا.
وفي هذا المضمار تبرز خاصية الإسلام الأساسية خاصيته التي أخفتها الفتنة الكبرى التي نتج عنها انقلاب دستوري جعل قانون الطوارئ يصبح القاعدة.
وقانون الطوارئ صيغ بمصطلحين كلاهما متقدم على الدستور القرآني والتطبيق الراشدي: خيار الحق الإلهي في الحكم سواء بغطاء ديني نكص بالأمة.
وهذا النكوص كاد يتحقق والرسول لم يدفن بعد: فقد ترددت الجماعة بين العودة إلى سنة الحق الإلهي (التشيع) وسنة منا أمير ومنكم أمير (الجاهلية).
لكن الخلفاء الراشدين قبل الفتنة الكبرى -أي الثلاثة الأول- وضعوا أسس ما في الدين من عوامل التأثير التاريخي أو الوصل بينه وبين ما بعده الفاعل.
فالوصل بين التاريخي وما بعده هو المؤثر من الدين في بناء الحضارات. والنكوص ألغى الوصل أو بصورة أدق عكسه فجعل ما بعد التاريخ منافيا للتاريخ.
فيكون الخلفاء الثلاثة الأول هم من حدد هذا الوصل وتكون الفتنة الكبرى وما تلاها هي التي ألغته من ثم فما لا بد من إصلاحه هو هذا الوصل الحي.
وقد حددت هذه العناصر في كلامي على الدولة الإسلامية كما حدد مقوماتها القرآن والممارسة الراشدة: المشروع وتثبيت الأحياز وتفاعلاتها والمرجعية.
فالمشروع هو الرسالة وأبو بكر ثبت المكان وعمر الزمان وعثمان ثبت المرجعية وأثر المكان في الزمان حقق التراث والزمان في المكان حقق الثروة.
ما حصل بعد الفتنة هو تغير المشروع والمكان والزمان والمرجعية بمجرد أن أصبح الأمر الواقع متحكما في الأمر الواجب فتغير الوصل بين التاريخ وما بعده.
والقرآن ببعده السالب نقد وتفكيك لعلل تحريف الرسالات المتقدمة عليه وببعده الموجب مؤكدا على هذا الوصل العضوي بينهما تبينت حقيقة النكوص.
والرسالات المحرفة التي ذكرها القرآن ليحدد طبيعة النكوص هي 2 منزلتان اليهودية والمسيحية واثنتان وضعيتان الصابئية والمجوسية وأصلها الشرك.
واصل التحريف الشرك ويقابل أصل التحرر منه الفطرة التي موضوع الرسالة التذكير بطبيعتها ليبشر من يذكرها وينذر من ينساها فيكون الوصل السوي.
والفطرة عقد وعهد بين أبناء آدم وفاطرهم منذ كانوا في ظهور آبائهم. والتذكير يتعلق بدحض الحجتين الواردتين في العهد: أثر الغفلة وتأثير التربية.
فالأعراف 173-174 تثبتان علل تحريف الفطرة في الأديان الأربعة التي نقد القرآن تحريفها وفكك عللها وأصلها الشرك ووضع شرط التعايش معها وغايته.
فالغاية (المائدة 48) هي تحقيق وحدة الديني بحرية توسلا لتسابق الناس في الخيرات فوظيفة الدولة الإسلامية توحيد الإنسانية بالنموذج الإسلامي.
وهو ما يعني أن نموذج الوصل الإسلامي بين الديني والدنيوي هو شرط تحقيق قيم الرسالة في الأمة حتى تكون ذات جاذبية فيسلم البشر طوعا لا كرها.
لذلك فحتى الفتوحات التي استعمل فيها السلاح فإنها تتميز بخاصيـن
يحررانها من دعوى كونها فرض الدين بالقوة: الدعوة للمساواة (لكم ما لنا وعليكم ما علينا) ومقاومة الاستعمار في الإقليم
ففارس وبيزنطة لم تحاربهما دولة الإسلام الأولى في عقر دارهما بل في مستعمراتهما التي هي غير فارسية وغير رومية بل هي تقريبا الإقليم العربي الحالي.
وأول عرض في المقاومة كان: أسلموا فيكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا. ومن ثم فالفتح لم يكن فرضا للدين بل تحريرا بالدين من مستعمري الإقليم.
وأكبر دليل أن ذلك قد تغير بعد الفتنة الكبرى إذ أصبحت الدولة لا تريد إسلام البلاد المفتوحة بل تريد بقاءهم على ما هم عليه حتى يدفعوا الجزية.
عندئذ لم يبق الفتح فتحا بل صار غزوا. وتلك هي دلالة كلمة الخليفة الخامس: لم يبعث الله محمدا غازيا بل بعثه هاديا.
فالدولة انتقلت من رسالة هدفها تحرير الفتح الروحي والسياسي إلى نهم استعماري هدفه الغزو السياسي والاقتصادي حتى صارت تحول دون الدخول في الإسلام.
وما يتناساه الكثير في فهم الفتنة الكبرى هو ما أشار إليه ابن خلدون وما كررته الفتنة الصغرى: عقد أبناء المستعمرات القديمة والحديثة وذلك هو أصل الداء.
ولأوضح: لم يفسر ابن خلدون الفتنة الكبرى بأسباب دينية بل بعقد قبائل المستعمرات الفارسية والبيزنطية التي تحتقر قبائل الدعوة الإسلامية ونكوصهم إلى قيم الجاهلية والتبعية الحضارية.
فالنخب الحالية التي تنتسب إلى الفتنة الصغرى (العلمانية) تحتقر الإسلاميين احتقار قبائل دعاة الفتنة الكبرى في مستعمرات فارس وبيزنطة للمسلمين.
ولعل مفهوم “عرب الشمال” يجمع المعنيين: احتقار النخب المستعمرة ذهنيا للمسلمين توهما أن قشور ما ورثوه عن الاستعمار حداثة بعد أن فقدوا أصالتهم.
لكنهم عبيد الدنيا التي من الله بها على من يحتقرونهم من العرب فصاروا هم خدما لديهم لكونهم عبيد يتذللون لعرب الجنوب مع ادعاء احتقارهم في لقاءاتهم الخاصة.
ويكفي أن تنظر في مصدر الجواري من أين مأتاها حتى تعلم إلى أي حد يصل غرامهم بالدنيا واحتقارهم لكل ما يتجاوز الإخلاد إلى الأرض : كلاب تلهث.
وذلهم يتصورونه فهلوة وذكاء في حين أنهم مستعدون لأن يخدموا ركاب أي سيد له المال. فاجتمع فيهم تقية الأجداد وسفالة الأحفاد عبيد الاستعمار.
نقلة عاصمة الخلافة من المدينة إلى الكوفة ودمشق وبغداد لا يختلف الدلالة عن الانتقال من دستور الرسول وقيم القرآن إلى ما وصف ابن خلدون من فقدان للسيادة الروحية بسبب التبعية الحضارية.
فالنقلة إلى الكوفة عودة إلى الحق الإلهي الفارسي مع الجاهلية العربية والنقلة إلى دمشق عودة إلى الحق الإلهي البيزنطي مع الجاهلية العربية ومن ثم العودة إلى التعبية الحضارية.
والنقلة إلى بغداد جمعت الفارسي والبيزنطي والجاهلية العربية ومن ثم التحريف التام للثورة الإسلامية التي تتعلق ببعديها الروحي والسياسي.
فأما الروحي فإن العقيدة الإسلامية لم تعد علاقة مباشرة بين المؤمن وربه وتطبيقها السياسي أو سيادة الجماعة عوضها الحق الإلهي والقوة في الحكم.
فكان التحريف إلغاء لحرية المؤمن الروحية ولحرية المواطن السياسية: حاولوا تكوين كنسية مجوسية (الاعتزال) وحق إلهي في الحكم مع فقه التغلب.
أعلم أن أدعياء الحداثة يتصورون المعتزلة عقلانيين لأنهم لم يتجاوزوا ساذجها القائل بشفافية الوجودية التي ترده إلى الإدراك مع القول بالمثنوية المجوسية.
وليس بالصدفة أن كانوا أول من أراد مذهبهم مذهبا رسميا للدكتاتورية السياسية بدعوى القول بخلق القرآن حتى يكون لهم اليد الطولى في التأويل المعطل.
ذلك أن تعطيل الله بالثيولوجيا السلبية ليس له من هدف غير إطلاق يد المستبد الذي يدعي العقلانية ليصبح هو المشرع بديلا مما تقدسه الأمة من قيم ومبادئ قرآنية مؤسسة لنظامها الروحي والسياسي.
هم كنسية تدعي العقلانية تماما كعلمانيي عقاب الزمان الذين يجعلون ثرثرته الإيديولوجية بديلا من القيم السامية فلا يبقى أساسا للتشريع إلا غلبة الاستبداد والفساد.
كلام النخب المستعمرة ذهنيا واستهانتهم بالعرب الذي يسمونهم الأعراب مضرب الأمثال. وكم أعجب ممن يتنازل عن شرفه في العلن معتبرا نفسه داهية.
فغالب “الخبراء؟” والصحافيين؟” و”الكتبة” و”الطبالين” منهم وكنت أعجب من تكيدهم كشعراء عصر الانحطاط في مدح من يحتقرون كلما تكلموا في خاصتهم.
من يزعمون كبار الصحافيين تراهم يؤلهون مستخدميهم وقد سمعت بعضهم على مائدة الأكل ما جعلني أكاد أتقيأ متقززا من تذللهم وحقارتهم المقيتة.
وهم يعتقدون أن مستخدميهم ليسوا متفطنين لذلك. وما يفعلونه مع العرب يفعلون مثله مع الأوروبيين ولكن بموقف مقابل تماما: استهانة باطنة بذواتهم.
فتعاليهم على العرب هو عين ما يجعلهم متدنين أمام الأوروبيين لعلمهم أن الأوروبي لا يحترمهم بالذات بسبب ما يتبرأون منه خلال تشبههم بالمستعمر الذي يحتقرهم.
ثم بالتدريج لما تمكن العرب المخلصين للذات من السبق حتى في التحديث والتمكن من ثقافة العصر أصبح ما يمثلونه لا يتجاوز الإيديولوجيا الحداثية وأمراضها.
ولعل أفضل مثال أضربه هو ما يمكن تسميته بالمركب البورقيبي: فأدعياء الحداثة عاشوا على وهم تقدم تونس على كل العرب حتى فضحت الثورة تخلفهم.
فنخب تونس لا تعرف من العالم إلا فرنسا وثقافتها. لكن نخب العرب الذين يتصورونهم متخلفين في علاقة بالعالم كله شرقه وغربه تواصلا ثقافيا وتبادلا اقتصاديا.
وآمل أن يمكن ذلك نخبنا من التواضع للتخلص من الفترينة البورقيبية: فمن يسمونهم مربوطي الرأس لهم مآت آلاف الدارسين في الغرب. المهم تجاوز القشور.
ما به يصل الإسلام التاريخي بما بعده هو هذه المحددات الخمسة: الأحياز أي المكان والزمان وأثر الأول في الثاني التراث والثاني في الأول الثروة.
والمقومات الخمسة التي عينت هذه الأحياز للوصل بين الأحياز الخمسة أي المشروع وتثبيت المكان والزمان وثمرتي تفاعلهما والمرجعية أي نص المشروع.
إضاعة مركز المكان ومركز الزمان ومركز التراث ومركز الثروة ونص المشروع أي المرجعية هي علل فساد الوصل بين التاريخ وما بعده: بها يفعل الإسلام.
وينبغي إذن إصلاح هذه الوصلات بين التاريخ وما بعده حتى تستعيد الأمة لواحمها المكانية والزمانية والتراثية والاقتصادية بنص المشروع المرجعية.
وهذا هو هدف محاولتي تفسير القرآن الفلسفي بعنوان “استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية”. الإسلام لتوحيد البشرية بالقيم الكونية.
وختاما فمعجزة الإسلام الوحيدة هي هذا المشروع الكوني لتحقيق مضمون الآية الأولى من النساء والآية 13 من الحجرات بالحريتين الروحية والسياسية.
لعل جل المتكلمين على الإصلاح الديني في الإسلام ومحاكاة المسيحية لم يدركوا حقيقة الرسالة الإسلامية: فهي إصلاح ديني كوني لكل ما تقدم عليه.
وهي مشروع بديل يعالج علل ما حصل من تحريف في الأديان السابقة: وأساس هذا المشروع البديل هو الوصل بين التاريخي وما بعده وذلك هو بعده السياسي.
لذلك فكل الأغبياء الذين يريدون الفصل بين الرسالة بعدها السياسي الواصل بين التاريخي وما بعده يردون العودة إلى التحريف وليس إصلاح الدين.
ولأنهم لم يدركوا هذه الحقيقة ركزوا على قشور الإسلام تماما كمحرفيه متصورين أن ذلك إصلاح وليس نكوصا إلى الكنسية التي تتأسس على فصام الإنسان.
فنعود إلى العلاقة بين الكنيسة المسيحية والدولة الرومانية. دولة وثنية وكنيسة في خدمتها بالمقابلة بين ما لقيصر وما لله. فيستعبد الإنسان مرتين روحيا وسياسيا.
رب الأرض قيصر (السياسة العلمانية) ونواب رب السماء (الكنسية). فلا يكون الوصل بين التاريخ وما بعده في ذات المؤمن بل في استعبادييه الطاغوتيين.

تعليق واحد

  1. ارد على استاذنا ابي يعرب في ثلاث نقاط او يزيد
    1.نقلة مراكز الخلافة سببها تبادل الخلافة نفسها ومراكز القوة العائلية فيها، فاختلفت الى الامويين ثم العباسيين، حتى لما وقعت بايدي الاتراك نقل مركز الخلافة الى الباب العالي، وليس في ذلك استحقاق قديم مستحدث لاهل المكان، بيزنطة، فرس، روم، بل استغلال لمراكز قوى استحوذ عليها.
    2.الاستعباد الكنسي الروحي لا يفوقه الاستعباد الروحي في الاسلام في شيء، لان التعبد عبودية لله الحق في المبدأ والاصل. فلا يمكن التحدث عن تحرر ديني مسلم وانغلاق مسيحي كنسي.
    3.نسي ابويعرب، الائتمانية، وهي الامانة التي يحفظ عهدها الانسان اللاهوتي فطريا، مما يجعل تصرفاته، صورة او ظلا للامر الالاهي، عند صوفية محي الدين بن عربي، او تفردا خلقيا عند المعتزلة، او زيفا وبهتانا وخيانة للامانة عند محدثي الشرق كطه حسين مثلا. كل هذا لا لوم عليه، لفطرة الانسان الخطئية، او خطيئته الفطرية قبل نزوله الارضي، بالاعتراف الالاهي، او بعد نزوله، وارسال الرسل لاعادة الانسان للعبودية الروحية.
    في الاخير اتفهم تقزز استاذنا الجليل من فاقدي الهوية، دساسو كل الازمان، واقول له، ذرني والمكذبين اولي النعمة وامهلهم قليلا….

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock