مقالات

هدنة روسيا – محاولة لحفظ ماء الوجه ولو بنصر وهمي

أبو يعرب المرزوقي
الحرب لم تضع أوزارها لكن الخاسر والرابـح بات معلوما وما شككت في ذلك قط حتى قبل هذه الهدنة التي سعت إليها روسيا لخروج يحفظ ماء الوجه ولو بنصر وهمي وزائف.
وسنرى أن الوضعية المتقدمة على تدخل روسيا هي التي ستعود بدءا بخرق الهدنة وختما باستئناف الثوار عملهم الرائع الذي أحبط الكثير منه خيانة داعش والجبهة الكردية العلمانية والطيران الروسي.
وما أريد بيانه لا يقتصر على ظواهر الحرب منذ 6 سنوات فضلا عن بنائه على هذه المرحلة من معركة حلب بل يضيف مقومات الصمود الذاتية لدى الطرفين.
وإذن فللتحليل مستويان: ظواهر الحرب والمعركة الأخيرة ثم مقومات الصمود المعنوية والمادية لدى طرفي المعركة في الإقليم أولا وفي العالم ثانيا.
ذلك أن كل تحليل يقتصر على المستوى الأول لا يتجاوز الارتسام الصحفي الذي يجعل من إيران وروسيا قوتين عظميين وهما واهيان يقفان على أرجل من طين.
ولو قلت إن حال إيران وروسيا الآن لا يختلف عن حال فارس وبيزنطة عندما بدا الإسلام تاريخه الكوني لظن القارئ أني أبالغ: كلتاهما “عملاق” يحتضر ويعيش على إيهام نفسه بالعنتريات.
ففي هذا القرن إيران ذات نظام قروسطي وروسيا عادت لفاشيات النصف الأول من القرن الماضي ولا تختلف كثيرا في القروسطية الدينية بسبب فقدان شروط الشرعية.
وكلا البلدين فقيران لا يختلفان عن كوريا الشمالية عسكريا وسياسيا ولا ثروة لهما إلا الخام  الطاقي ومن ثم فبالمقارنة مع أي دولة أوروبية متوسطة هما من العالم الثالث.
والعرب على ما في وضعهم من ترد أغنى منهما وأقدر لو لم يقدموا حربهم الأهلية على التصدي للأعداء. لكن حرب المطاولة ذات فضل على العرب لأنها ستفرض عليهم تجاوز الصراعات الداخلية لحماية الكيان.
صحيح أن أنظمة العرب هي بدرها مريضة وتحتضر لكن المعركة ليست بينها وبين إيران وروسيا بل هي بين سنة الإقليم والعالم وهذين الرجلين المريضين.
وصحيح كذلك أنه لا يمكن للشعوب أن تحقق شيئا من دون قيادة منظمة أو نظام قائد إذا قسنا على الوحدات التي تحققت في التاريخ قديمه ووسطيه وحديثه.
وصحيح أخيرا أن حركات المقاومة -إلا ما ندر- تحولت إلى حرب أهلية بين أمراء الحرب يتقاسمون ما لم يحصلوا عليه بعد كل يريد إمارة مستبدة وفاسدة.
ومن الضروري والعسير إصلاح حركات المقاومة والأنظمة العربية الحالية حتى تتفق على غاية واحدة حتى لو سلمنا بتعدد الاجتهاد حول الوسائل والطرق.
حرب المطاولة مناخ ضروري لتحقيق الغاية الاستراتيجية: وحدة الخطر على الأنظمة السنية (عرب وأتراك) يمكن أن يكون فرصة توحيد المقاومة بمعنيين.
أولا توحيد المقاومة الشعبية وثانيا توحيد المقاومة الرسمية لتكون هذه مصدر المدد العسكري والدبلوماسي وتلك أذرعها في الميدان ليشمل الإقليم كله.
عندئذ سيتحدد حلف القوتين الدولتين. فالثابت فيه الآن أمران: روسيا وأمريكا لا يمكن أن يبتعدا عن إسرائيل ولا يمكن أن يعاديا سنة العالم بصورة مطلقة وعلنية.
والمتغير أمران: صراع المصالح بينهما وأداتاهما: الفرس والكرد (وطبعا بعض الخونة من العرب الترك). وكلاهما يعلب عليهما بما يقتضيه التعامل مع الثابتين.
والفرس والكرد ليسا متحالفين إلا ظرفيا لذلك فمن العسير ترضيتهما معا فضلا عن استحالة الحلف المتين مع أي منهما ضد العرب والترك بسبب الوزن.
أساس الخطة مضاعف: توسيع رقعة الحرب لتشمل الإقليم كله وتوسيع الرهان ليشمل المعمورة بمجرد شموله كل المسلمين. بهذين الشرطين نقلب كل المعادلات.
وفي هذا الإطار لا بد من احترام الثابتين ما لا يمكن للقوتين العظميين حاليا أن يغفلا عنه ينبغي أن نجعله نصب أعيننا: حماية إسرائيل ومهادنة المسلمين خوفا من وحدتهم.
إذا كانت روسيا وأمريكا لا يمكن أن تتنازلا عن إسرائيل ولا يمكن أن تعاديا المسلمين كلهم فإن الحل هو مهادنة إسرائيل وضم المسلمين إلى المعركة.
وأظن أن إيران تتكفل حاليا بالأمرين: فهي بحركاتها بدأت تستفز كل المسلمين (السنة) ولن تستطيع توظيف مهادنة العرب لإسرائيل في دعايتها لأنها سبقتـهم إلى الحلف معها علنا (في سوريا على الأقل).
بمعنى أوضح إرجاء المعركة مع إسرائيل أو حلها بالنظرة البعيدة (ترك الوقت للديموغرافيا حتى تغير المعادلة في الدولة الواحدة التي أصبحت الحل الوحيد) وإقحام المسلمين في المعركة هو الذي سيمكن من الاستئناف.
وفي ذلك لا بد من قيادات تجمع بين العرب والترك والباكستانيين والمالويين والأفارقة في حلف دبلوماسي صريح يحاور أقطاب نظام العالم الجديد.
بعبارة أوجز: لم يعد بالإمكان أن يقاوم العرب كعرب والترك كترك والباكستانيين كباكستانيين والمالاويين كمالاويين ومسلمو إفريقيا كأفارقة بل لا بد من مظلة وازنة في صراع طرفه المضاد لنا قوى دولية.
سيعترض الكثير بأن من عجز عن توحيد العرب لا يمكن أن يطمح إلى توحيد المسلمين. وهذا اعتراض وجيه شكلا وخاطئ مضمونا للعلتين التاليتين البينتين.
فما يوحد كل شعب من هذه المجموعات إيجابا متجاوز لحدود مجموعته وشامل للمجموعات كلها أي الإسلام وما يوحدها سلبا متجاوز لحدوها كذلك: التهديد مصدره إحدى القوى الكبرى أو أذرعها في كل الحالات.
والعامل الإيجابي لا يشكك فيه أحد. لكن العامل السلبي يبدو مشكوكا فيه: هل هذه المجموعات تتعرض لنفس الخطر الدولي؟ الجواب على مستويين بينين.
فالخطر يتعلق إما بأساس سيادتها الروحية أي إسلامها وهو تهديد إيراني وبوذي أو بأساس سيادتها السياسية أي استقلالها. وكلاهما شامل لدار الإسلام.
ولأشرح ذلك: فباكستان لا تزن وحدها أمام الهند والمالاويين لا يزنون وحدهم أمام الصين والعرب والترك أمام روسيا ولا حتى أمام إسرائيل التي وراءها الغرب كله والأفارقة أمام أوروبا وأمريكا.
لكن كل واحد من هؤلاء يزن أمام غريمه إذا سانده بقية المسلمين وذلك يصح في كل الحالات ومن ثم فالوحدة الدبلوماسية بينة الفائدة السياسية.
وهي أشد بينونة في مستوي السيادة الثقافية: ذلك أن العرب أو الترك أو الباكستانيين إلخ.. إذا تمكن من ثقافتهم التشيع والبوذية لم يبق لهم قيام أو تأثير.
بذلك يتبين أن الاستراتيجيا بمعنييها السياسي والروحي شرطي السيادة يقتضيان هذه الوحدة الواسعة في عالم المعاليق وكل من ينتسب إلى العصر يفهم المقصود.
بدأت التحليل بالمستوى الاستراتيجي الروحي والسياسي لأن المستوى التكتيكي للمعارك ومظاهر الأحداث ينبغي أن يتبع وأن يبنى عليه إن أردنا الفلاح.
ففي ضوء ما يترتب على هذه الأرضية الاستراتيجية يمكن فهم حسابات الأعداء. فالتشييع والتبويذ أداتان لضرب أساس المقاومة أي سيادة الأمة الروحية.
وقد سبق أن ذكرت بتعريف كلاوسفيتز لشروط النصر الثلاثة: كسر الجيش وحيازة مصادر القوة المادية ثم القضاء على إرادة المقاومة أي السيادة الروحية.
والأعداء يتصورون أنهم كسورا الجيوش واحتلوا الأرض التي هي مصدر القوة المادية ولم يبق صامدا إلى أصل المقاومة أو السيادة الروحية: الإسلام.
ولهذه العلة أولي أهمية أساسية لدور السعودية وأسعى بكل ما أستطيع لجعل النظام يفهم أن حيازته للحرمين تحمله مسؤولية تاريخية لا تقدر ولا تعوض.
وكم نبهت إلى أن إيران مدركة لأهمية حيازة الحرمين رغم محاولتها الاستعاضة عنها بالمراقد معابد القلة الوثنية التي تدعي الإسلام: التشيع الصفوي.
ويمكن القول إن نسبة السعودية إلى السيادة الروحية هي نسبة تركيا وباكستان وإندونيسيا إلى السيادة السياسية جمعا بين شرطي الأصالة والحداثة.
ذلك أن السعودية لا يمكن أن تكون في مستوى هذه المسؤولية التاريخية من دون إصلاح جوهري لنظامها السياسي والروحي لتصبح قوة روحية ومادية مؤثرة فعلا.
فالإصلاح في السعودية ليس سياسيا فحسب بل هو روحي كذلك: فليس لنظامها الروحي من التيمية إلا القشور لأن النخبة الدينية لم تتجاوز معيقات الفكر الحي الواصل بين الديني والفلسفي.
ما بني عليه النظام السعودي من حلف بين التقليد القروسطي في النظرة الدينية وتقليد الحكم بالعصبية القبلية (الأمراء) لا يمكن أن يصمد أمام الأعداء.
بكلمة واحدة: يمكن للنظام السعودي أن يصبح قاطرة لكل المسلمين لو تحول إلى ملكية دستورية حديثة من جنس ملكيات أوروبا بعد الثورة الفرنسية: فيكون جامعا لـدعامتي الشرعية.
فهذا النظام يمكن أن يكون شديد المتانة لجمعه بين دعامتين: حب الشعوب لتقاليدها الرمزية وحب الشعوب لحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وذلك هو القصد بالجمع بين الأصالة والحداثة. ولعل أبرز مثال في ذلك النظام البريطاني فهو يجمع بين التقاليد الرمزية والحقوق والحريات الفعلية.
إذا تم ذلك فإن السعودية تصبح قوى عظمى لأن الله حباها بكل شروط العظمة: الروحية تجعها محج مليار ونسف والمادية: فهي بحجم قارة في مركز العالم.
وإذا لم يبادر الجيل الحالي من حكام السعودية ونخبها للإصلاح فقد تتعرض إلى ما يهددها به أعداؤها الطامعين فيما لديها من عاملي قوتها الروحية والمادية.
والـحكمة السياسية هي التي تسبق الأحداث فتحقق طوعا ما قد تضطر إليه كرها: ذلك أن شرعية النظام تزداد كلما كان هو المبادر فيضمن البقاء بالشرعية.
وليتدبروا مثالين منها: محمد الخامس صار بطلا لأنه كان مع الشعب وباي تونس سقط لأنه لم يكن كذلك. ومحمد السادس سبق الربيع فجنب بلده آثاره ما أمكن.
وآمل أن يكون سلمان مجددا بهذا المعنى: ذلك أن من تقدم عليه تصور أن الاعتماد على أمريكا كاف وهو خطأ فادح نرى نتائجه الحالية: تغول إيران.
أعلم أن الكثير من الخليجيين سيعتبرني أتدخل فيما لا يعنيني. وهؤلاء هم الذين ما يزالون يحلمون بحماية أجنبية أو عملاء إيران وأدعياء الحداثة.
ذلك أنه لو كان ما يقولونه صحيحا لكان من الواجب ألا يتدخلوا في الثورة والا يمولوا الانقلابات متوهمين أن الثورة المضادة يمكن أن تربح المعركة.
الفرق بين تدخلهم وتدخلي هو الفرق بين من يريد الإبقاء على التبعية الناتجة عن الاستبداد والفساد ومن يريد تحرير الأمة منهما ومما يترتب عليهما.
فيكون تدخلي لإيمان بأن للسعودية دورا يمكن أن يكون مستقبليا وبين من يريدها مرتعا للاستبداد والفساد ولو تحت الاستضعاف والاستتباع من الأعداء.
وعندي أن دور السعودية في مجال الإصلاح الروحي والسياسي ينبغي أن يحقق الجمع بين قيم القرآن ومطالب الثورة التي تؤدي فيها تونس نفس الدور.
الفرق الوحيد بين الدورين هو أن تونس تنطلق من هذه نحو تلك والسعودية ينبغي أن تنطلق من تكل نحو هذه فيلتقي القطبان.
قطب المشرق السعودية وقطب المغرب تونس فهذه هي عاصمة الفتح في الغرب الإسلامي مثلما كانت تلك عاصمة الفتح في المشرق الإسلامي.
وبخلاف ما يتصورون فالسعودية بسب الحرمين وبسبب كونها مركز الخلافة الراشدة هي وطن كل المسلمين الصادقين وليست مزرعة العملاء من أدعياء الحداثة.
اكتفيت اليوم بتحليل المستوى الاستراتيجي فتكلمت على شروط السيادتين الروحية والسياسية وسأعود قريبا إلى الهدنة الحالية وصلتها بظواهر المعركة.
ذلك أن تأويل الظاهرات التي تصاحب الهدنة التي احتاجت إليها روسيا للخروج من مأزق تعلم ما سيترتب عليه رهن هذا المستوى الأول الذي بدأت به.
لكني أقدم بعض اللمحات:
1. لا تخرج إيران من الهلال من دون أن ندخل نحن إلى إيران
2. لن يخرج حزب الله من سوريا إلا إذا دخلت المقاومة إلى لبنان.
ثم
3. لن تخرج روسيا من الإقليم ما لم يتحرك مسلمو الجمهوريات بما وصفت من الاستراتيجية العامة.
4. ولن يسالمنا الغرب ما لم نفرض عليه مراجعة حساباته.
وذلك كله.
5. لا يمكن أن يحصل ما لم نحقق شروط السيادة الروحية والسياسية التي علينا جعلها واحدة لكل السنة في العالم كما وصفت لوحدة الأخطار.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock