تدوينات تونسية

المسلمون أولى بعيسى بن مريم

بحري العرفاوي

إحيائية السنة الميلادية 2017

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، الأنبياء أخوة من عِلاّت، وأمهاتُهم شتّى، ودينُهم واحد، وليس بيننا نبيّ”. متفق عليه.

الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد أنه الأولى بحفظ مكانة عيسى وتصديق نبوته وتأكيد رسالته… إن محمدا ص لم يأت لينتقص من مكانة عيسى ولم يقل إنه سيبدأ بناء الحضارة الإنسانية من العدم بل اعترف لمن سبقه من الأنبياء بعظيم دورهم في التمهيد للرسالة الخاتمة. وفي الحديث: “إن مَثَلي ومَثلَ الأنبياء من قبلي كمَثل رجل بنى بيتا فأحْسنَه وأجْمَله إلا موضع لبِنة من زاوية فجعل الناسُ يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاّ وُضِعت هذه اللبنةُ؟ قال: فأنا اللبنةُ وأنا خاتم النبيين”.

إن محمدا ص لم يُلغ دور من سبقه وهذا من أخلاق الأنبياء ومن شيم العظماء حين يتواضعون لمن سبقهم وحين يُعلون من شأن من مهّد لهم الطريق وحين يعتبرون أنفسهم أولياءَ الصالحين المصلحين فلا يدعي أحدٌ أنه أقربُ إليهم وأولى بهم منهم… إن المسلمين الذين يتخذون من رسولهم محمد ص أسوة ومن أقواله وأعماله وإقراره سُنّةً لا يمكن إلا أن يقتدوا بموقفه من عيسى ليكونوا أحرص الناس على إحياء قيم التوحيد ومبادئ الإنسانية وروح الفضيلة التي تشترك فيها كل الرسالات… لقد كان محمد ص “بِرّا” بمن سبقه من الأنبياء والرسل من إبراهيم وعيسى وموسى ونوح و… وكان يستشهد بمواقفهم ويعتبر بمسيرتهم وتلك قيم ضرورية لتأكيد تواصل خط النبوة ولدعم الوشائج الإنسانية بين الشعوب والأمم.

إن المسلمين ليسوا مدعوين إلى تقليد الكثير من المسيحيين في عاداتهم الإحتفالية بمولد عيسى عليه السلام حين يمارسون ما يخالف عقيدتنا وقيمنا بل وما يخالف روح الديانة المسيحية ودلالات التطهّر والتنقّي والصفاء… إننا يمكن أن نتخذ من المناسبة محطة لتأكيد وحدة الوحي ووحدة الدين ووحدة مصدر النبوة والرسالات، لقد أسهم الأنبياء والرسل جميعا في تسريب “الوحي” تدرجا وفي إقامة صرح التوحيد المُعَنون أخيرا في “الإسلام”: “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ” وما من نبي إلا وذكر كلمة الإسلام “مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ”.

إن الذين لا يجدون استعدادا نفسيا أو ذهنيا لإحياء ذكرى ميلاد نبي الله ورسوله عيسى لهم أن يحتفظوا بموقفهم ذاك ولهم أن ينصحوا من يحتفلون بمولد نبي بطرائق غير لائقة، ولكن ليس لهم أن يصادروا حق الآخرين في الإحتفال بطرائق غير منافية وغير متعارضة مع المضامين العميقة للدين.

ـ كل سنة والبشرية تُحصي نجاحاتها وتقف على مواطن خيباتها… كل سنة والتجربة البشرية تقترب من معاني “التوحيد” ومن الأهداف الكبرى للأنبياء والرسل. كل سنة ونحن -جميعا- نتقدم في الإجابة عن السؤال الوجودي العميق: كيف نقترب من ملامح “الإنسان” المُفرد الجمع؟ “يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ”… ونحن نتقدم في الإجابة عن السؤال العملي الفعال: كيف نتعارف؟ “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.

حين يتحول مبدأ “التعارف” إلى عقيدة لدى الأفراد والشعوب والأمم ستتحول المعاني الإنسانية إلى وقود لتاريخ من التكامل والتعاون والتنافس الفعال تختفي فيه الأحقاد والضغائن والدماءُ… لقد ظل المسلمون الأوائل يعتقدون بكون الوحي واحدا وإنما اقتضت حكمة الله تعالى ورحمتُه بالبشرية أن يتنزل في مسار تدريجي ترفقا بتدرج الوعي البشري عبر تاريخ الرسالات ومحطات النبوة وهو ما يفسر أيضا تدرج المعجزات من المشهدية الحسية إلى التجريدية الذهنية ومن الإدهاش إلى الإقناع… لم يجد المسلمون الأوائل أيّ حرج في الإستفادة من تجارب الشعوب والأمم الأخرى معتقدين بأن “العقل” بما هو مَلكة إدراكية إنما هو من تصميم الخالق الواحد وإن كل ما ينتهي إليه من معارف وكشوفات وتجارب إنما هي ملك عباد الله جميعا من حقهم بل ومن واجبهم الإستفادةُ منها وفي الحديث “الحكمة ضالةُ المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها” وفي القرآن “الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ” وفي قول عمر بن الخطاب “انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال”.

لم يُكيف المسلمون الأوائل علاقاتهم بالشعوب والأمم الأخرى وفق دياناتهم وإنما وفق ما يقتضيه مبدأ “التعارف” من التعاون وتبادل الخبرات والمهارات والتجارب وهو ما سمح بنشاط حركة الترجمة في زمن مبكر من بناء تجربة الدولة الإسلامية الأولى فقد كان زيد بن ثابت وفي عهد رسول الله ص من أوائل المترجمين عن الساسانية والفارسية واليونانية قبل انتشار الترجمة في العصر الأموي ثم العباسي… إن مبدأ الصداقة أو التعاون مع الشعوب الأخرى إنما يتحدد وفق الأعمال وما تترجمه من تعاون واحترام أو عدوان وتعال.

التقسيم التقليدي للعالم بين ديار إسلام وديار كفر أو شرك لا يسمح بممارسة مبدأ “التعارف” بين الشعوب والأمم بل وقد يكون مُسيئا لحقيقة الحرب بين الظلم والعدل بين الإستبداد والحرية بين الجهل والعلم بين الإصلاح والإفساد… فعنوان “الإسلام” يتخفى تحته ظالمون ومستبدون ومفسدون يُجيدون التكلم في الإسلام ويسيئون العمل يؤذون الناس في أملاكهم وأعراضهم ودمائهم، وعنوان “الكفر” أو “الشرك” يشمل الكثير من المؤمنين بالحرية والعدالة والإصلاح وهي معان جوهرية من معاني إسلامنا العظيم.

“آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”. البقرة 285

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock