تدوينات تونسية

إلى صفاقس.. قِبْلَةِ الأحرار وقُبْلَةِ الشهداء

نور الدين الغيلوفي

1. صفاقس.. وإن طال السفر.. والسفر إلى محاريب الشهداء قطعة من الشوق.. من حولك على امتداد البصر خضرة تشهد بمنازل السماء.. ولمنازل السماء على الأرض علامات.. ترى من حولك الأرض تهتزّ وتربو.. اللون الأخضر يكسو من عراء يروى من عطش.. لبست الأرض خضرتها كأنّها تنسج للشهيد كفنا يليق به وقد خذله من خذله يوم أن ظنّ “أبناء القديمة” أنّ العبث لا يزال ممكنا لهم وقد ظنّوا أنّ دفن الشهيد حكم عليه بالغياب ولا شاهد ولا شهيد.. كأنّك وأنت ترجع البصر ترى على مداه كيف تمتزج دماء الشهداء بمنازل الماء فتنبت بِشْرا وخيرا وبركة…

الشوق يهوّن عليك السفر ويطوي عنك بعد الطريق.. فأرواح الشهداء تستقبلك قبل انطلاقك.. وتكون لك صاحبا في سفرك وخليفة في أهلك وتُعيذك ممّا ينغّص عليك.. ومن يكرم الشهيد يتبع خطاه.. وخطى الشهيد حقول تكرّم وإكرام…

2. نزلتم اهلا وحللتم سهلا..

صفاقس سيدة المدائن.. وميدان الحزم والحسم.. ومهاد العلم والعمل.. صفاقس المسيرة الغفيرة التي تسدّ عين الشمس.. ولقد عوّدتنا صفاقس سدّ العيون بجزيل مناضليها وكبرياء شوارعها المزدحمة برقّة الشوق وعلوّ الذوق وصلابة المناضلين.. لقد كان يوم 12 جانفي 2011 يوما صفاقسيا بامتياز.. كانت صفاقس ميدانا لتلك المسيرة الجماهيرية التي وضعت نقطة النهاية لنظام الفساد والاستبداد وحملت رئيسه على جمع أدباشه في انتظار الفرار المعلوم وهو يردّد: أما وقد نجحت صفاقس في فكّ الحصار على المجتمع فليس لنا بعد اليوم هنا مكان ولا قرار .. وبعد ليلتين فقط من زمجرة الصافقسية في عرينهم فرّ الدكتاتور بجنح الظلام فرارا لا عود منه…”ريح السدّ”!

3. في مدينة صفاقس تبادرك صور الشهيد محمد الزوراي تعانق السماء.. ترى المشهد من بعيد فتحسب أنك في غزة المقاومة.. أناشيد ممّا خبرت آذاننا..

زلزل أمن إسرائيل..

أشعل فيها بركانا…

وشعارت تمزج بين الثورة التونسية والمقاومة الفلسطينية..

الشعب يريد تحرير فلسطين..

وصورة الشهيد تطلّ على الجموع تعلوها بسمة تعكس الرضا.. أليس زفاف الشهادة مرضيا؟ ترسم صورة الشهيد سيرته.. لقد مرّ بالحياة مرور الأودية الهادرة.. لم يصخب ولكنّه ترك اسم علم لن يرضى الزمن له بالنسيان غلافا.. سيذكره التاريخ منتشيا لأنّه كان امتلاء محضا يحتاج أن يتّخذ اسمه وساما يتّشح به.. كان صمتا مليئا في وطن يحترف الهذيان ويسرف فيه.. وكانت سيرته لغزا فكّه استشهاده.. وبقيت صورته تعانقها الأبصار تستكنه أسرارها وتستفهم عن أسطورة إصرارها…

4. صفاقس.. تونس.. غزّة.. فلسطين.. محمّد الزوراي.. لقبُ نسبةٍ إلى زوارة.. وزوارة مدينة ليبيّة.. جموع بصيغة مفرد هذا الشهيد الصامت.. وكلّ بلاد العُرْب له وطن رغم فحيح المرجفين ممّن ضنّوا عليه بصفة الشهيد كما لو كانوا يحتكرون مفاتيح الغفران وإن هم أنكروا حقيقة الغفران.. عاش صامتا.. ومضى إلى ربّه محسودا من رجال ونساء يحملون شارة الوطن وهم في الحقيقة بعض من وجع الوطن.. ولا يزال الشهيد يصرّ على صمته فتصخب في حضرته بقايا الأسماء بعد أن جرحته الأشياء العالقة بالوطن من الذين لا يفهمون ولا يفقهون ولا يدرون..

لقد جاءته الجموع إلى مهاده في نفور يشبه حجّ المراقد هنا وهناك.. ولهجت الأصوات باسمه حى طغى اسمه على غيره من الأسماء.. ولقد عرج بشهادته إلى السماء فأضاف سطرا إلى كتاب المجد في صفاقس وكتب بدمه معنى الشهادة بعد أن عبث العابثون بمعناها فصارت حليّا لمن لم تكن يوما لهم أمنية…

5. لقد كانت مسيرة يوم السبت 24 ديسمبر 2016 استفتاء لا لبس فيه سيقرأ له الجميع ألف حساب.. قد لا يندم الصهاينة على فعلتهم لأن من أدمن الإجرام لا يمكن أن يرقى إلى مقام الندم.. ولكنهم سيعلمون أنّ عداء الأّمة لهم يزداد استحكاما يوما بعد يوم.. وإثر كل جريمة… إنّ كيانا مجرما يحتلّ أرض فلسطين سيظلّ خارج الطبيعة في بلاد العرب قاطبة.. وليس تجريم التطبيع بندا يضاف إلى بنود الدستور ولكنّه هوى يحكي موقفا أصله ثابت وفرعه في السماء وحقيقة وطنية وقومية لا ريب فيها…

ليس تجريم التطبيع نصّ حبر قد لا يحسن قراءته بعض المضاربين ولكنّ التطبيع مع العدوّ إنّما هو جريمة ترجمتها في منطوق الدين “التولّي يوم الزحف”.. والتولّي كبيرة كبرى ترتفع إلى منزلة الإشراك بالله…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock