تدوينات تونسية

من حكايات الخريف: آخر وصايا شهرزاد

عبد الحميد الجلاصي
وقد يعمد الخيال الى الحيلة، فيتدارك عجزه عن الإبداع فيستنطق الأموات من الأقدمين، يتستر بهم، وينسب إليهم بعض ما يريد قوله، وقد يوغل في التحيل والتبرير، زاعما أن الأقدمين أنفسهم لجؤوا الى تورية لسان الحيوان، خوفا من صراحة قول بني الإنسان.
وقالوا : يا عبد الله، يابن المقفع، لو استدبرت من امرك ما استقبلت، ما كنت مضيفا الى ما كتبت في كليلتك ودمنتك؟ فقال دون كثير تفكير، وكأنه ما كان من شغل لعظامه الرميم الا التفكير في هذا السؤال :
ربما كنت أعيد كتابة كل ما كتبت، فأنتم قوم لا تقرؤون. ولكن ما أراه الأنسب لحالكم هذه الايام، وأنا أتابع حيوان تلفازكم، هو باب “البوم والغربان”.
قال قائل منهم : ولمه، يا عبد الله ؟
قال : ليس العيب في الضعف، إنما العار في الجهل أو المكابرة. وقد قالوا أن نيل القوة سلم، أولى درجاته الانتباه والإقرار بالضعف. وبقية درجاته الاظافر، والعقل، والكثير من الصمت و… الزمن.
يا بني، أعيدوا كتابة هذا الباب !

وقالوا : يا ابا عثمان، أيها الجاحظ، يا رأس المعتزلة، حدثتا عما تتحفنا به من جديدك.
قال : لقد زهدت في علم الكلام عندكم لما رأيت “ابا فلان البغدادي”، و”ابا علان الزرقاوي” يتطاولون بالمنابر، ويقولون فيه دون علم، ولا هدى، ولا كتاب منير. كنا نجادل “ابا إسحاق الجويني”، فوجدناكم تتابعون “ابا إسحاق الحويني”.
زهدت في علم الكلام، ورجعت الى “كتاب الحيوان”.
قيل : و ما جديدك فيه ابا عثمان ؟
قال : حدثنا صديق لنا من الفرنجة ان القوم تحيروا في شأن حشرة طيارة. كانت تقفز المترين، والثلاثة، والتسعة، والعشرة. كل يوم كانت تقفز اعلى فأعلى.
فكر احد الأذكياء منهم ان يجرب معها نظرية “التطبيع”، او “السقف”، والفرنجة فيما رأيت قوم لا يلعبون، فلا يكثرون الكلام والجدال. وأيديهم في طرف ألسنتهم.
وضع الذكي الحشرة في صندوق بلوري انيق، لا يتجاوز سقفه المترين، وجلس على كرسيه يتابع احد أفلام الحركة بعين وحشرته بالعين الاخرى،
قضت يومها الاول في الاضطراب داخل الصندوق. فما طارت يميناً، او شمالا، او فوقا، الا اصطدمت بالسقف، وما تهيأت شمس يومها للغروب إلا وقد أخذ منها الإجهاد مأخذه، فقضت ليلتها في اسوء حال.
استانفت يومها الثاني بعزم جديد. وفي يومها الثاني، والثالث، والعاشر تسلل لها الفتور. وحدث ما كان يتوقعه. فقد اصبحت تتجنب جوانب الصندوق، وأصبحت دائرة طيرانها تتقلص يوما بعد آخر.
لما حرروها من الصندوق كانت قد استبطنت السقف، ولم يسجل التاريخ بعدها انها تجاوزت المتر في طيرانها.
تهامس تلميذان مشاكسان : رجاحة عقله وقدرته على التخيل والإيحاء تنسي دمامة منظره. ألا لا زينة سوى زينة العقل.

وارتفعت يد مشاكس اخر : سيدي… سيدي… سييييييييي… حديثك ذو شجون، فقد ذكرني حكاية رواها لي الوالد عن بعض الحيوانات لما كانت تتكلم، وكان يؤكد انها بالفعل كانت تفعل في زمن لم يدركه هو ولا أدركه والده.
قال لنا الوالد ان الأسد لم يكن يرتعب من شيء ارتعابه من الحمار، فما ان يرى أذنيه قائمتين الا اطلق للريح ساقيه.
لم ينجح الوالد ان يصف لنا ازدهاء الحمار، ولكنه اخبرنا انه سال الأسد يوما عن سبب خوفه فأعلمه انه يتهيب قرونه.
شبع الحمار ضحكا، ولما كان طيبا، وحنونا، ولا يحب الكذب، فقد اخبر ضحيته ان أذنيه من عضل مطواع وليسا من صلب الحديد.
لا اتذكر من بقية الحكاية سوى انه من يومها اصبح الأسد هزبرا، فيما اصبح صديقنا مسخرة للحيوان، وسخرة للإنسان !!!

وقد اضطرب القوم زمنا في تصنيف ابن كثير، أهو مؤرخ ؟ أم هو مفسر ؟ أم هو غير ذلك، حتى قال أوسطهم طريقة، لا تشغلوا أنفسكم بما لا ينفع، وخذوه كما هو.
فقالوا : يا أبا الفداء، يابن كثير، أفدنا بما تراه جديدا.
قال : حار كثيرون في الجمع بين التفسير والتأريخ، وما دروا الصِّلة بين الكتاب المفتوح، كتاب الخبرة البشرية، والكتاب المتلو، كتاب الهدي الإلهي، والجهد المطلوب لتأويل الدلالات اللفظية، او لفك شفرات الإشارات الكونية.
لم اجد أحكم من أم موسى. ترضع ابنها وتاخذ على ذلك اجرا من فرعون. هذه تسمى “شطارة التجار”، وقد يسميها البعض “2en1”.
ولم أر أكثر مدعاة للشفقة من قوم يمولون جزاريهم، فإذا هم ينفقون أموالهم، ثم تكون عليهم حسرة.
عند الاجتياح الاول لبغداد كان التتري يطلب من المسلم ان ينتظره حتى يأتيه بسكين يذبحه بها. وكان مسلمنا ينتظره، خوفا من الموت !
اما عند الاجتياح الثاني، الذين نحن شاهدوه، فإن التتري يطلب من المسلم ان يذهب هو ليأتيه بما به يذبحه. ويذهب المسلم، حذّر الموت.
لقد اصبح التتري اكثر اناقة، واصبح المسلم اكثر كرما !!!

وقالوا : يا ابن بطوطة، يا رحالة العرب، هل علمت شيئا جديدا منذ ان كتبت كتابك؟
قال : لعلي أفيدكم بما يروى عن اَهل الصين. فقد رايتهم يصنعون شيئا عجيبا. كانت كلما ولدت لهم بنية اعدوا لها حذاء حديديا صغيرا تضع فيه رجليها، فتنضبط للمقبول من الاحجام، والمتعارف عليه من الأذواق، حتى لا يختل نظام العالم.
وقد بلغني ان هذه العادة تبنتها منظمة التجارة العالمية في اطار تبادل العادات المفيدة بين الشعوب والثقافات.
قال قوله هذا، والتحق بالقافلة التي كانت في انتظاره.
وبقي القوم في خضخاض من الامر يتاولون حكايته.

وقالوا : يا أبا زيد، يا ابن خلدون، هل عندك لنا من جديد ؟
قال : لقد اقلعت عن التفكير.
أقرؤوا ان شئتم : “و إذا تبدلت الاحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث…”
و لكنكم لا تقرؤون.

اعرف شهرزاد من زمن طويل، ربما من قبل ان يتزوج والداها ! واعرف ولعها بالحديث حتى اتهمها البعض، وربما كانوا صادقين، بالثرثرة.
لاول مرة أراها زاهدة في الكلام،
لاول مرة أراها تنقطع عنه قبل ان يفاجئها الصباح، وقبل ان يدق الجرس.
قالت : وما هم ان أعرف ان الذاكرة متحيلة، وان لها عقلا، إن لم تكن للكلمة ارادة، وان لم تكن للارادة يد.
وقالت : بشرونا منذ عقد ونصفه انهم سيعيدوننا الى العصر الحجري. اراهم تراجعوا. هم يدمرون حتى الحجر.
أراهم يقولون لكم : لن تسمعوا بعد اليوم حكايات شهرزاد، ولا مواويل حلب.
وقالت : قد اصمت، ولكنني بعد اليوم لن انام.
اشتغلت زمنا بالقص لأجلب النوم للسهارى.
سأشتغل بما يذهب النوم عن الكسالى، فمن نام اليوم لم تنتظره الحياة.
وسكتت،
والتفت لأجد حنظلة العلي بجانبي.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock