تدوينات تونسية

“عاشق النبي”: قصة التونسي الذي “فر من الدنيا إلى ساكن الحمى”!

القاضي أحمد الرحموني
لا شك ان مناسبة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي دفعت ذاكرتي الى استحضار ما قرأته منذ مدة في بعض كتب التراجم القديمة حول شاعر تونسي من شعراء القرن الثامن الهجري يدعى ابو البركات ايمن بن محمد البزولي، ويعرف بعاشق النبي، اندلسي الاصل، هاجر في نهاية المطاف الى المدينة المنورة التي توفي فيها سنة 734 هـ/1333م.
وتشير سيرة الرجل -في بعض ملامحها التي وصلتنا- الى تحولات مثيرة في حياته الشخصية وكذلك في حياته العامة ارتبطت شديد الارتباط بالرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك ان شاعرنا قد عرف – في مدة نشأته الاولى بتونس – انه “كثير الهجو والوقيعة في الناس” الا ان تخليه عن ذلك بصفة فجئية جعل بعض الرواة الذين كتبوا سيرته (اساسا صلاح الدين الصفدي في كتابيه الوافي بالوفيات وأعيان العصر وأعوان النَّصر) يستنتجون انه “اناب واقلع!” بمعنى انه تاب ورجع عن ممارساته تلك وهو ما دعاه بعد ذلك الى الحج وملازمة الحرم النبوي بالمدينة المنورة، ويبدو انه لم يغادرها الى حين وفاته ودفنه هناك.
وتورد الاخبار المروية عن فترة شبابه ان شاعرنا قد هجا -من جملة من هجاهم- ابا سلامة ناجي بن الطواح التونسي احد الطلبة الادباء بتونس وكان طويلا رقيقا فيه انحناء.
ويتبين من الابيات الثلاثة التي قيلت في حقه انها اشارت الى اوصافه الخلقية طولا وانحناء وشتمت اباه وامه في صيغة بلغت منتهى البذاءة والانحدار! حتى انه لا يمكن في هذا السياق روايتها او الاشارة الى بعض اجزائها (راجع الابيات في الوافي بالوفيات للصفدي، ج 10ص22، ط 1. سنة 2000).
لكن كيف بدأت رحلة الشاعر “التائب” في اتجاه المدينة المنورة بعد ان ترك “الهجو والوقيعة” في الناس؟
يبدو من الثابت ان ابا البركات ايمن البزولي لم يتجه -بقصد التكفير عن اخطائه- الى التخلي كلية عن الشعر بل اختار ان يوظف موهبته بطريقة اخرى وينتقل في نفس الوقت من موطنه الاصلي الى جوار النبي.
وعن هذه الرحلة يشير الرواة الى “انه اتى الى المدينة الشريفة النبوية… وكان قد التزم انه لا يدخل الحرم النبوي الا بعد ان ينظم قصيدة يمدح فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم!”
اما عن تلك القصيدة -التي تناقلها المنشدون على لسان الشاعر- فقد برزت فيها مشاعر ندمه ورغبته في الانفصال عن الماضي و”الفرار من الدنيا الى ساكن الحمى!” وشدة التعلق بجناب النبي والتماهي في شخصه وطلب شفاعته:
فررت من الدنيا إلى ساكن الحمى *** فرار محب عائذ بحبيب
لجأت إلى هذا الجناب وإنما *** لجأت إلى سامي العماد رحيب
وناديت مولاي الذي عنده الشفا *** لداء عليل في الديار غريب
أمولاي دائي في الذنوب وليس لي *** سواك طبيب يا أجل طبيب
تناومت في إظلام ليل شبيبتي *** فأيقظني إشراق صبح مشيبي
وجئتك لما ضاق ذرعي بزلتي *** وأشفقت من جرمي بمحي سليب
وما أرتجي إلا شفاعتك التي *** بها يبلغ الراجي ثواب مثيب
فقال لك البشرى ظفرت من الرضى *** بأسعد حظ وافر ونصيب
فدامت مسراتي وزادت بشائري *** وطاب حضوري عنده ومغيبي
أنا اليوم جار للنبي بطيبة *** فلا طيب في الدنيا يقاس بطيبي
(انظر، الوافي بالوفيات، المرجع السابق، ص22).
ومن الواضح ان تطور تجربة الشاعر في جوار النبي -رغم شعوره بالغربة- وتدرج عاطفته من الاحساس بالذنب ورجاء الشفاعة الى محبة الرسول قد بررت اشتهاره بلقب غير مسبوق هو “عاشق النبي”!.
ويمكن ان نلاحظ في سيرة الرجل مبلغ هذا التعلق الروحاني الذي تجسم في انقطاعه الكامل عن اغراض الشعر الاخرى حتى انه -حسبما يروى- قد “ألزم نفسه أنه في كل يوم ينظم قصيدةً يمدح بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم!”.
ويبدو ان وفاءه بذلك الوعد واستمرار مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم الى حين موته قد رسخ على مر القرون استحقاقه دون منازع لذلك اللقب الشهير (انظر، الوافي بالوفيات، المرجع السابق، ص23).
ويظهر ان الشاعر نفسه قد اوحى بذلك المعنى -الذي يفيد فرط المحبة ومرض الحب- في بعض اشعاره التي تروى عنه، من ذلك قوله:
حللت بدار حلها أشرف الخلق *** محمد المحمود بالخلق والخلق
وخلفت خلفي كل شيء يعوقني *** عن القصد إلا ما لدي من العشق
وما بي نهوض غير أني طائر *** بشوقي وحسن العون من واهب الرزق
محمد يا أوفى النبيين ذمةً *** ظمئت وقد وافيت بابك أستسقي!
ولهذا السبب اوردت بعض المراجع انه هو من سمى نفسه عاشق النبي !. (انظر، الوافي بالوفيات، المرجع السابق، ص23 -محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ج1 ص124).
ولعل نهاية الرحلة بالنسبة لشاعرنا التونسي قد تبدو منسجمة مع افراط تعلقه بالرسول، فرغم عزمه في بعض الاوقات على العود لزيارة اهله بتونس (وذكر كذلك أن صاحب تونس الحفصي بعث اليه يطلب منه العود الى بلده ويرغبه فيه) فقد نقل عنه قوله “أنى لو أعطيت ملك المغرب والمشرق لم أرغب عن جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم!”.
وتتفق الروايات على ان السبب في امتناعه عن الرجوع الى موطنه هو رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقوله له “يا ابا البركات، كيف ترضى بفراقنا؟!”.
ولعل “قصة العشق” التي رواها ابو البركات في قصائده وتلقاها عنه المحدثون بإخباره قد بلغت اقصى صورها فيما يروى عنه أيضا “انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فانشد بين يديه:
لولاك لم أدر الهوى *** لولاك لم أدر الطريق!
(انظر، الوافي بالوفيات، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، المرجعين السابقين).

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock