مقالات

فيدال كاسترو وزعماء مافيات العالم وفاشياته

منذ شبابي كنت دائما أشعر بشيء من الريبة إزاء الخيارات الماركسية واليسارية ليس لخياراتهم الاجتماعية والسياسية التي لا أجد فيها بينهم وبيني فرقا رغم اختلاف المنطلقات.

ما كان يبعدني عنهم هو تبريرهم لها بما يبدو لي متنافيا مع موقفهم من الدين والأخلاق. لم أكن أفهم سخاء الموقف الاجتماعي العادل وتعليله المادي.

فمن المفروض أن تؤدي الفلسفة المادية إلى القانون الطبيعي أي إلى خيار دارويني يتنافى مع ما يتنافى مع قانون الانتخاب الطبيعي والقوة المادية.

ولما كانت أخلاقهم وموقفهم العنيف الذي لا يعرف الرحمة ولا الشفقة سواء في ما بينهم أو مع خصومهم استنتجت أن موقفهم الاجتماعي كان ورقة تسويقية.

وكنت ولا زلت أكره كل ما أشتم فيه رائحة النفاق وخاصة إذا تخفى برداء القيم وكانت الأفعال مطلقة التناقض مع الاقوال وصاحبها الغدر والنكران.

بدأت بهذه المقدمة لأني أريد أن أقول كلمة في فيدال كاسترو. لم يكن لي موقف إيجابي إزاءه وإزاء كل ادعياء الثورة وخاصة من حكام العرب ومقاوميهم: فغالبيتهم الساحقة مستبدون وفسدة.

وكل ما كان لدي في شبابي من حسن ظن بالمقاومة التونسية والجزائرية اللتين كانتا بحق شعبيتين ومؤمنتين بالجهاد في سبيل الله والوطن شككني فيه ما رأيته من تزاحم فرق المقاومة الفلسطينية التي تحولت إلى تجارة.

فما رايت في المقاومتين اللتين عرفت في شبابي سلوكا مثل سلوك المقاومات التي كانت بين موقفين كلاهما يعد بذرة للحرب الأهلية : إما كاريكاتور التأصيل (السلفية الجهادية) أو كاريكاتور التحديث (المقاومة العلمانية).

فلكتا المقاومتين يغلب عليها الطابع الاستعراضي لنزوات المنتسبين إليها وأحوالهم النفسية فلا تتجاوز العنتريات المخادعة للشعب وهي ليست لوجه الله ولا لوجه الوطن.

فلو كانت لوجه الله لما آلت إلى أمراء الحرب. ولو كانت لوجه الوطن لما آلت للحلف مع إرهاب الأنظمة العميلة كما نرى في سوريا والعراق واليمن ومصر وليبيا وحتى في تونس.

ولعل أفضل مثال من هذا الكاريكاتور المخادع ما يسمى بحزب الله الذي لم ينطل علي حتى اتهمت بأني معاد للمقاومة بسبب اعتقادي أنه ليس إلا رأس جسر إيرانية لمفاوضة الغرب بتخويف إسرائيل.

وكنت ولا زلت احذر قيادات حماس -كلما رأيت أحدا منهم- بأن الخطأ الاستراتيجي يتمثل في رهن القضية الفلسطينية بجعلها ورقة في الملف الإيراني تساوم به على حساب القضية كما فعلت بلبنان كله.

وها هي الآن تساوم بفلسطين والعراق وسوريا ولبنان واليمن والكويت والبحرين وقريبا إن ظل العرب يغطون في نومهم البليد بكل الخليج وحربهم الأهلية لفقدانهم الرأي السديد.

وإذن فكلامي ليس لمدحهم بل لمحاولة فهم علة كونهم ما كانوا؟ سأسأل على ما يبدو ابتعادا عن كلامي على اليسار وعن فيدال كستروا وعن ثوار العرب حكاما ومقاومين.

والسؤال: هل لو تركهم الاستعمار يعملون بما يقولون دون أن يخيرهم بين العمالة أو العداوة للقضاء عليهم بكل الوسائل هل كانوا يكونوا طواغيت وفسدة؟

هل كان كاسترو يكون شيوعيا لو تركته أمريكا يصلح شأن بلاده دون فرض العمالة أو الإزالة؟ هل كان يصبح بيدقا سوفياتيا و دكتاتورا ليحمي نظام حكمه؟

هل كان عبدالناصر وصدام والقذافي وبومدين يضطرون للاحتماء بالسوفيات ويجعلون أنظمتهم مخابراتية ومستبدة بإطلاق على السوفيات لو لم يكن بقاؤهم من دون ذلك ممتنعا؟

ليست نظرية المؤامرة: فلنحص محاولات اغتيال كاسترو مثلا أو صدام أو ناصر أو القذافي أو بومدين من قبل مخابرات أمريكا مباشرة أو بمنافسين عملاء.

وقد يكون الدليل القاطع اغتيال الملك فيصل: فهو لم يكن معاديا لأمريكا ولم يكن متطرفا لا باسم الدين ولا باسم الثورة الاجتماعية ومع ذلك اغتالوه.

يكفي أن نتتبع الانقلابات التي تجري في العالم حتى نعلم من يحرك الإجرام والإرهاب العالميين وطبيعة الوظيفة التي يؤديانها في مسار العالم الحالي ومصيره.

أردت أن أكتب على كاسترو فأصبحت أكتب على مصدر كل الإجرام الدولي والإرهاب الكوني: مافيا المصالح الأمريكية والغربية فهي أصل كل فاشيات العالم وحاميتها.

لست أدري ما الذي يوجد في فكر كاسترو وناصر وصدام والقذافي وبومدين لكني أدري أنهم مهما كانت وداعتهم لن يرضى عنهم الاستعمار إلا كعملاء.

لكن المشكل أن الاستعمار لن يرضى عمن يقبل بأن يكون عميلا إلا إذا قبل بأن يكون مستبدا بما يكفي حتى يجعل شعبه عبيدا دون أن يستجلبوه كالسابق.

اكتشف الاستعمار أن كلفة العبيد وهم في بلادهم التي يسيرها عملاؤهم دون كلفتهم لو استوردوهم كما فعلوا مع السود. الحكام للسيطرة على عبيدهم.

ومن هذا الضرب نقل المعامل إلى بلاد العالم الثالث كما في الصين والهند خاصة: فهي عبودية مقنعة. العمل الرخيص دون كلفة استجلاب اليد العاملة.

بهذا المعنى -رغم كل ما يقال في هؤلاء القادة الذين لا يعلم إلا الله ما في قلوبهم- يحسب لهم على الأقل محاولة المقاومة والصمود أمام تطويعهم بكل الوسائل تطميعا أو تخويفا.

ولست غافلا على أن الغرب يلعب أحيانا لعبة خلق الزعامات والبطولات لإضفاء المصداقية على عملائه كالحال مع كلب الملالي في لبنان وعنتربات إيران.

لكن هؤلاء يوجد دليل على كونهم عملاء تحاول أمريكا أن تضفي عليهم المصداقية: أنهم في النهاية يفتضحون بسلوكهم وبمجرد بقائهم فالصادق يغتال إلا ما ندر لأن الله ستر.

بهذا المعنى كاسترو بطل لأنه قاوم إلى آخر قطرة من طاقته حتى بعد أن تحلل الاتحاد السوفياتي وكان صادقا مع العالم الثالث ولا أصدق أنه غدر بتشي جيفارا.

فلم نر أنه قد حصل على مقابل لمثل هذا الغدر وما أظنه يفعل مجانا ككل سياسي محنك مثله. لذلك فالأرجح أن هذه التهمة ملفقة من مخابرات أمريكا لتشويهه.

لكني لا أفتي بذلك ببراءة هؤلاء الزعماء من النزعة الاستبدادية والفساد التابع لها حتما لأن المستبد يحتاج إلى أعوان والأعوان مرتزقة حتما ولا بد من جزاء مرض هو علة الفساد.

ولكن في هذه الحالة المسؤولية ليست فردية: لا يمكن للنزعات الاستبدادية أن تكون فردية لأن من شروط نجاحها وخاصة دوامها فساد أخلاق الجماعة.

وذلك هو مدلول قوله صلى الله عليه وسلم: كيفما تكونوا يولى عليكم. وذلك معنى رد الخليفة الرابع البليغ على من عاب عليه عدم السيطرة على الأمر: لأن الرعية كانت مثلي وصارت مثلك.

فلا أحمل السيسي وحده مسؤولية ما يحدث في مصر: فالنخب التي أطاحت بمرسي لا يناسبها إلا أمثال السيسي. نخب فاسدة تريد مستبدا وفاسدا مثلها.

لما أنظر من حولي في تونس مثلا: صرت واثقا من أن إصلاح ما يجري مستحيل سلميا. فالأغلبية الساحقة أصبحت تستمرئ الفساد المشروط بالاستبداد حتما.

وأقول هذا بعد أن جربت سنة وشهرين في وهم لعلي لست الوحيد الذي وقعت فيه: ولعل ذلك من علل ما يعاب على من أصيب بداء الفلسفة صادقا : إنها سذاجة المؤمن بأن في الإنسان ما يعلو على الحيوان.

يصعب أن تخرج أمة من انحطاطين ذاتي ومستورد بسلام: الانحطاط الذاتي هو الذي جعلنا قابلين للاستعمار والانحطاط المستورد هو اضافة الاستعمار.

وحتى لا يظن أن أبالغ ربما بمرارة شخصية من تجربة فاشلة فلنسأل أي مصري نزيه: هل ما يجري في مصر ممكن لولا نخبة التأصيل والتحديث المزعومتين؟

خلال المدة التي حكمت فيها الترويكا في تونس صار هم الجميع تخريب البلاد اقتصادها وثقافتها وإدارتها وسمعتها الدولية حتى توقفت الحياة كلها.

وصار اليسار ومليشياته بالقلم والثقافة وبشعار حرية الإعلام المزعومتين والسلفية الجهادية بالسيف وبشعارات التدين المزعومة حربا على الإصلاح.

وهما حزبان وصفتهما بكاريكاتور التحديث وكاريكاتور التأصيل يخوضان حربا أهلية تحول دون كل إصلاح لأنهم أدخلوا البلاد في صدام حضاري.

كلاهما يريد القضاء على الثاني وهما حليفا الثورة المضادة التي تمولهما معها رغم كونها متحاربين. ذلك أن المطلوب ليس انتصار أحدهما بل إطالة الحرب.

فخبث أمريكا وذراعيها الإيراني والإسرائيلي يعتمد على إدخال الفريسة في حرب أهلية تجعل كلا صفي الحرب يطلبان ودهم ومساعدتهم أحدهما على الآخر.

ومهما حاولت -لما كنت عضوا في المجلس وفي الوزارة بعد انتخابات الثورة الأولى- فإن جواب كلا الصفين ليس التفاهم للبناء بل التناكر لتهديم البلد نقمة في الصف الثاني.

فحتى كبارهم ومن كنت أتصورهم عقلاءهم احتجوا بعلمهم اللدني في المعارك السياسية وحرضوا بعض ازلامهم فعيروني بأكبر لوثة “فيلسوف” أعيش في الأوهام جهلا بفن السياسة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock