مقالات

العرب غارقون في حربين أهليتين فما المخرج ؟

أبو يعرب المرزوقي
إذا لم يحسم العرب حربيهما الأهليتين في كل قطر غالبيته عربية ثم بين هذه الأقطار ذات الغالبية العربية فإن أي متجريء عليهم من الاستعمار وأذرعه سيتكون ذا يد طولى عليهم رعاية وحماية فيبقوا فاقدين للسيادة.
فماذا أعني بالحرب الأهلية في كل قطر؟ إنها خاصية هشاشة الأنظمة العربية. فرأس الدولة سواء كانت ملكية قبلية أو جمهورية عسكرية غير مستقر بحق.
صراع الأمراء في الأولى وصراع الضباط في الثانية حرب أهلية يستغلها الأعداء في الإقليم وفي الغرب ضربا لرأس براس وتحكما في الأنظمة بتقسيم رأسها.
وما أعنيه بالحرب الأهلية بين الأقطار العربية مثاله مهزلة المهازل في المغرب العربي بين الجزائر والمغرب الأقصى. فهي من علامات العقم العربي.
ما حدث في القمة الإفريقية العربية الحالية من علامات صبيانية القيادات العسكرية التي تخنق شعوبها بنزوات العناد المراهق في عصر يسوده العمالقة.
وما بين الجزائر والمغرب نجد مثله بين السعودية والإمارات أعني أن ما منع الخليج من أن يكون قوة اقتصادية وعسكرية صراع بين الإخوة حال دون توحيد العملة.
يرضون بوضع يجعل عملاتهم تتحدد بمقياس تابع للدولار بدلا من عملة قوية يمكن أن تكون مستقلة فلا تتحدد إلا بقيمتها الفعلية دون تبعية لتقلباته وسياسة أمريكا.
وقد تطور الصراع فتجاوز الاقتصادي إلى الثقافي وباتت سياسية أحدهما مبنية على التنديد باساس الثاني العقدية والفكرية وتشويهه بما يستجيب لحاجة الأعداء.
وقبل ذلك كان الوضع بين العراق وسوريا وهما محكومان بحزب من المفروض أن يكون واحدا حتى حصل لهما ما نراه الآن: صارا ذيلين لإيران ناخرة كيانهما.
وبينهما كانت سياسية القذافي قد وطدت سياسة جارنج في السودان وسياسة الانفصاليين في الصحراء الغربية وكل تخريب عرفه العرب حتى ادعى في الأخير أنه خليفة الدولة العبيدية.
أما عندما تسمع للنخب التي تدعي التأصيل النخب التي تدعي التحديث فإنك تعلم أن الحرب الأهلية لم تعد سياسية فحسب بل هي صارت صراع حضاري داخلي.
تلك هي مأساة أمة أصبح واقع مؤسسات الحكم فيها والنخب التابعة لها وحتى المعارضة خربة متداعية للسقوط لأنهم لا يريدون على الأقل تأجيل ذلك.
وتلك هي العلة التي جعلتني أجد عذرا لتركيا وأردوغان فحكام العرب هم الذين اضطروه للتعامل مع إيران في ملفي العراق وسوريا. فهم لا يعول عليهم لجبنهم وقصر نظرهم.
ثم تجد من إعلامييهم وحتى من سذج دعاتهم من يلوم اردوغان وتركيا إما لأنها علمانية لكأنهم هم قديسون أو لأنها ساعدت إسرائيل في الحريق الأخير.
ما بال العرب؟ ماذا دهاهم؟ ما الذي حل بهم حتى صار من لا يساوي ثروة وعديدا وعتادا عشر ما لديهم ويتفرسن عليهم فيحتل جل عواصمهم: من يصدق أن هؤلاء خلائف الفاتحين؟ إنهم مسخ منهم.
هل يمكن أن يكون أقصى طموح لديهم التنافس على ناطحات السحاب وهم في الخراب إلى “العنكوش” في يباب وهباب ويكاد يستعبدهم من يعتبر العرب كلاب.
لا أشعر أن فيهم حبة خردل من العروبة والإسلام: فعربي ومسلم مفهومان مناقضان للذل والهوان. عادوا إلى ما كانت عليه جاهليتهم فوضى واقتتال داخلي.
ويجمع ابن خلدون وأفلاطون على وصف مثل هذه الحالة التي يتقاتل فيها أبناء أمة واحدة على الحكم في رأس كل دولة ثم بين دولها ضد عزتها وكرامتها.
فابن خلدون يعتبر ذلك دليلا على هرم الدولة التي لا علاج لها ولا شفاء ويفسر ذلك بالفساد والترف إذ يصبح الحكم للمتعة. فجل استثمارتهم للترف وليس للإنتاج.
وإذا كانت إيران تحتل العواصم من أجل المجد فهم يحتلون بعض بلاد العرب للفساد والمتعة فبعضها جعلوها أشبه بالـمواخير لفسادهم وترفهم ولا حاجة للتوضيح.
وقد بلغ الأمر حدا جعل ترومب يستغل ذلك في حملته الانتخابية واصفا بعض الساسة والأغنياء العرب كيف يتسوحون فيستأجرون الفنادق كاملة لا غرفة أو غرفا محدودة مثله رغم ثرائه.
ويكذب من يتصور ذلك مقصورا على بلاد البترول فلعل أهلها مهما فسدوا أقل تبذير من البلاد الفقيرة فسرقات حكام اليمن ومصر وتونس لا تقل عنها.
فما تركه ابن علي وأسرته لما فروا من سيارات ويواخيت يساوي نسبة معتبرة من ميزانية الدولة. ما هربوه لبنوك سويسرا من أموال يغني تونس عن التسول.
ونفس الأمر يقال عن مصر وعن كل بلد عربي. فكيف بمثل هؤلاء أن تبني أمة؟ إنهم دود تراب لا رجال يطلبون المجد والعزة والكرامة ويراعون حقوق شعبهم.
وعندئذ تفهم لماذا تحولت النخب إلى ذباب وعضاريت تعيش على فضلات موائدهم فيكونوا مستعدين للطبل والزمر وللتحالف من الشيطان للأكل كـالأنعام والشرب كـالسكارى.
وتفهم كيف عم الفساد كل النخب سواء كانت سياسية أو معرفية أو اقتصادية أو فنية أو حتى دينية. كلهم باعوا أخراهم بدنياهم وفضلوا حياة على الحياة.
بئس الحال التي تردت إليها أمة كان سلفها مؤسسي فجر جديد في تاريخ البشرية حتى بشهادة أعدى أعدائها (هيجل) فصارت أضحوكة المعمورة كلها. اللعنة.
وعلة الحرب الأهلية للتنافس على الحكم في رأس الدول سببه الخطأ الدستوري. تجاوزت البشرية التداول على الحكم بقتل الوريث المنافس أو العكس.
وتجاوزت البشرية قبل ذلك نفس العلاقة بين العصبيات بالاقتتال بين الموجودة في الحكم والساعية إليه. لكن العرب لم بتجاوز بعضهم الأولى والثانية.
والأمة تجاوزتهما ثم نكصت ولم تفهم على نكوصها فبقيت فيه وعادت إلى مرحلتي الاقتتال. وذلك بسبب الفتنة الكبرى والحرب الأهلية المترتبة عليها.
ولما تم التغلب على الفتنة الكبرى بحل جعل الضرورات تبيح المحظورات بما يمكن تسميته بحالة الطوارئ التي فرضها معاوية أصبحت دائمة إلى اليوم فكانت منافية للمقومات المبدئية لشرعية الحكم الإسلامية.
استعذب الحكام التخلي عن الدستور الإسلامي الأصلي وأداموا الحل الذي توقعه الإسلام للضرورات فحسب ففرضوا بقاء الضرورات التي تبيح المحظورات.
فلو فرضنا بمقتضى القانون الوضعي أن قانون الطواريء الحاد من الحريات في أمريكا بعد 11-9 قد أصبح هو الوضع الدائم لفهمنا ما حصل بعد الفتنة الكبرى والحرب الأهلية في تاريخنا.
ومعلوم أن الفتنة الكبرى والحروب الأهلية الرابعة التي تلتها (2 قبل حسم معاوية للمعركة: حرب صفين وحرب معاوية وعلي و2 بعدها: حرب الحسين وزياد ثم حرب ابن الزبير وعبد الملك) أعمق أثرا من حادثة 11-9.
لكن ذلك لا يعني أن تحول الظرف الطارئ إلى ظرف دائم أمر شرعي. لذلك فإن قول القاضي ابن العربي إن الحسين قد قتل بشرع جده فإنه قد قال نصف الحقيقة. نعم وضعية الضرورة لم تنته. لكن شرع جده لا يعتبرها دائمة بل هي مؤقتة ككل الطوارئ.
وتلك هي العلة التي جعلت ابن خلدون يعقب عليه فيصححه. فهو لا يعلل مقتل الحسين بشرع جده بل بكونه أخطأ الحساب السياسي مع التسليم بأنه كان على حق من حيث المبدأ.
فميز ابن خلدون بين الشرعية المبدئية وبين القدرة عليها في ظرف الضرورات التي قد تبيح المحظورات كالحالة في خروج الحسين عليها دون قدرة فعلية.
وبذلك فالتحرر من الضرورات التي تبيح المحظورات إسلاميا لا يكون إلا بإحدى طريقتين أولاهما لن تتكرر لأن الرسول كان الـخاتم والثانية تتكرر دائما.
ومعنى ذلك أن التحرر من هذا القانون يكون معجزة سماوية برسول يحقق الشرعية حتى وهو ليس الأقوى والثانية هي الحرب الأهلية التي لا بد من حسمها.
وحسمها لا يكون بالقوة وحدها بل بفهم الصفين أن الحرب مدمرة لهما فيصلان إلى عقد هو الدستور الذي يغلب بيبدل الخيارات التي تمنع وجود المحظورات.
ذلك هو الحل الذي يعوض المعجزات السماوية التي اخبرنا القرآن أن عهدها انتهى بعد الرسالة الخاتمة. لكن العرب ما زالوا يحلمون بحل من السماء.
ولما كنت أعتقد أن العائق الأساسي هو أن المتنافسين على الحكم سببه أن الحكم صار مصدر الإثراء والارتزاق فإن الحل إذن هو تجاوز هذه العقبة.
وقد تجرأت فنصحت تلميحا لا تصريحا أنظمة الخليج وخاصة أكبرها بأن تلجأ لحل أفضل من حل محمد علي من حيث الوسيلة (قتل كل المماليك) لأنه يحقق نفس الغاية سلميا دون إجرام.
فبدلا من أن تبقى الدولة بقرة حلوبا يعيش من ميزانيتها آلاف الأمراء والزبائن دون عمل فلتقرر الدولة تمكينهم مرة واحدة من موارد رزق فعلية مقابل عمل خارج أجهزة الدولة.
وليكن ذلك صريحا ومرة واحدة حتى تتحرر الدولة من عبء امتيازاتهم والتنافس على الحكم بمجرد المولد أو القرابة فتصبح في علاقة واحدة مع كل مواطنيها لا يكون في خدمتها أحد بالوراثة بل بالاجتهاد والجهاد المثمرين.
والاجتهاد والجهاد المثمران مجالاتها معلومة وهي خمسة:
1- مجال تمثيل إرادة الجماعة بشرعية اختيارها لهم لهذه المهمة بفضل أخلاقهم وكفاءتهم.
ثم 2- مجال العلم والمعرفة وهذا يكون بالاندراج في البحث العلمي لمن له هذه الكفاءة والميل ولا يخلو هؤلاء ممن له ذلك لأنها لا تسثني الأمراء.
ثم 3- مجال القدرة أي الاقتصاد والأعمال ويمكن لمن له ميل منهم أن تمكنه الدولة من رأس مال كسلفة يرجعها لما ينجح مشروعه الإنتاجي فلا يبقى عالة.
ثم 4- مجال الحياة أي الفنون ولعل فيهم من هو موهوب في فن من الفنون الجميلة فتمكنه الدولة من تحقيق ميله وتساعده مرة واحدة ليصبح ذا منزلة فيه.
والمجال الأخير 5- هو مجال الوجود أي التعبير عن رؤى الوجود إما دينيا أو فلسفيا ومنهم دون شك من له ميل إلى التعبير الديني أو الفلسفي عن رؤية.
فإذا صار كل المواطنين متساوين أمام القانون حقوقا وأمام واجب خدمة الأمة واجبات وتحدد دستور التداول السلمي على الحكم خرجنا من الحرب الأهلية.
إذا خرجنا من الحرب الأهلية في كل قطر أصبح لنا رجال دولة يمكنهم أن يقتنعوا بأن أمة كان بدؤها كونيا ينبغي أن تتجاوز الحرب الأهلية بين دولها.
فتصبح الغاية التكامل كنفدرالية بداية ثم فدرالية غاية فتعود الأمة إلى عزها وهيبتها فلا يستطيع أي عدو العدوان عليها لما يتوفر لها من القوة الروحية والمادية.
ذلك هو حسب رايي الحل الذي يقتضيه العقل والحكمة. وأعتقد أن الوضع والظرف سيفرضانه: فالأعداء أحاطوا بالجميع فهل نبقى طرائد كلاب الصيد الاستعمارية وأذرعها؟
أما التنافس بين الضباط والانقلابات ثم الاعتماد على من يرشحهم الحامي الذي اخترق جهاز الدفاع الذي هو جهاز المناعة فالحل أعسر بدليل ما نراه.
فكل الأنظمة العربية غير الملكية يحكمها العسكر الانقلابي والفاشي. وعلاجها يؤدي إلى ما رأيناه في الجزائر وما نراه في سوريا والعراق وليبيا واليمن وقد نراه في مصر إذا تواصل الانسداد.
حسم الحرب الأهلية فيها لا يكون إلا بإلغاء ما ألغته سيطرة العسكر في أكبر بلاد العرب. ففي العهد الراشدي لم يكن للأمة جيش يمكن أن يصبح دولة في الدولة.
بل كانت الجماعة كلها حامية الجماعة. لا وجود لشيء اسمه العسكر الحامي للجماعة المتخلية عن وظيفة حماية نفسها لحامية تستبد بها وبحقوقها.
والبلد الوحيد الذي يحافظ على هذه السنة في العالم اليوم هي إسرائيل: الشعب ذكورا وإناثا مجند للدفاع مع مختصين وظيفتها تعليم الشعب الدفاع لا تعويضه في فرض العين.
فتعليم الحماية أو وظيفة التعليم العسكري فرض كفاية أما الدفاع عن الجماعة فهو فرض عين وليس فرض كفاية. المسلمون تخلوا عن هذا الفرق فاستبدت بهم الحاميات.
ولما كانت الحاميات هي بدورها محمية من المستعمر وأذرعه صارت دول العرب محميات وليست دولا ومن ثم فهي عديمة السيادة.
وقد اعتبر ابن خلدون ذلك مؤديا لفساد معاني الإنسانية لأن الجماعة تصبح عالة على الحامية فلا تستطيع حماية نفسها من الحامية فتصبح عبيدا لها.
ولما تثور كما حدث في الجزائر أولا ثم في سوريا واليمن وليبيا حاليا فإن الحرب تصبح حامية ضد شعب مسلح. وذلك مصير كل البلاد المحكومة بالعسكر.
ذلك أنك لا تستطيع أن تتحرر من الحامية إذا لم تصبح كشعب قادرا على حماية نفسك منها. الثورة المسلحة تحرر من الحامية لكنها قد تتحول إلى حامية.
تلك هي الوضعية الحالية في سوريا وفي اليمن وفي ليبيا وقد يعم الأمر. وهو أخطر ظاهرة قد تزيد الأمة تفتتا لأن أمراء الحرب يكونون إمارات تابعة فيزداد التفتت وتضاعف الحروب الأهلية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock