تدوينات تونسية

نذير السنين العجاف، وبشير البقرات السمان

عبد الحميد الجلاصي
#من_حكايات_الخريف
الأحد 6 نوفمبر 2016
الثامنة صباحا
…أخيرا، يصل مرافقي وصديقي “حمدوش”، الذي صحبني في أغلب أسفاري في أرجاء هذه البلاد الصغيرة والجميلة. تعرفه الطرقات ويعرفها، وتحييه العلامات عندما يمر بجانبها، وحتى “الرادارات” تحييه أحيانا، ولكن تحيتها مكلفة، فأدفع لها مقابل التحية.
للأحد عندي بعض الطقوس:
*فإما أن أمشي في ركاب الزوجة الى سوق حي الزهور، أتملى الوجوه والقسمات. اقرأ مزاج البلاد، وأجدد العلاقة مع التراب، واتعلَّم منها فنون المفاوضات التجارية.
قادتنا رحلة التنقل بين منازل الإيجار إلى أكثر من حي، ومع ذلك تبقى لهذه السوق نكهتها الخاصة. لما تزوجنا سكننا منزلا مجاورا لها، وهكذا فتحنا أعيننا في حياتنا الزوجية عليها. وما الحب إلا للحبيب الاول.
حافظت ايضا عَلى حلاقي. فأنا لا أسلم راسي الا لحلاق حي الزهور.
قد يعترضك في السوق من يحيي، ومن يحتج، ومن يشجع، وكل ذلك يضفي قبضة من حياة على ما أقرأ من أرقام.
– وإما أن ارتكن ركنا قصيا في مقهى هادئ. احمل معي حاسوبي، أطلب موسيقى هادئة، اقرأ، وأخربش. ثمرات المطابع تطارد حراك الواقع. والسياسيون يغرقون في معارك الديكة في البرامج التلفزية، فيفوتهم نبض الحياة.
– وإما انطلق في سفر الى احدى مدن بلادي.
هذا الاحد اذهب الى لقاء مع مناضلي النهضة في منزل تميم.
ينطلق حمدي.
افتتح الموسيقى: صباح الخير يا وطنا يسير بمجده العالي الى الأعلى. تعجبني الأغنية كالعادة. اهديها الى أصدقاء الفايس بوك، ثم أترك العنان لصباح فخري.
أفكر في الاجتماع. فيزيونوميا السياسة تتغير في تونس. وقاعدة الأحزاب بصدد التغير. تلحقها رياح العمل العلني والديموقراطية. في الثمانينات كانت قواعد الأحزاب المناضلة في أغلبها دائرة من المتعلمين والمثقفين تجمعهم قيم ومبادئ واهتمامات. الان ينضاف لهذه القاعدة مواطنون يحملون انشغالاتهم اليومية ومعاناتهم، ترهقهم بطالة الأبناء ويبحثون عند “المسؤولين” (آكاد أقول المسهولين) عن حلول. لا تهمهم كثيرا النقاشات “العالمة”.
لا شيء يحرجني في هذه الاجتماعات أكثر من لحظاتها الأخيرة.
حينما يلتف حولك المناضلون القدامى يبثونك مخاوفهم حول مشروع أنفقوا فيه أعمارهم. كم يلزمنا من حوار لتقريب الفجوة بيننا.
وحينما يلتف حولك الشيخ والأرملة، والشابة والشاب، يحملونك توصياتهم، ويثقلونك بمظاريفهم ومطالبهم. لا تستطيع أن ترفض، ولا يمكنك أن تكذب. لا تستطيع ان تفسر شيئا، فتكتفي بالوعد انك ستحاول.
لم يخرج تمثل جزء كبير من الرأي العام للأحزاب عن الصورة النمطية للحزب الحاكم السابق. علينا أن ندرك كم من الوقت والجهد والبيداغوجيا نحتاج حتى نبني ثقافة سياسية جديدة، وحتى نقول أن الأحزاب الأولى في الانتخابات ليس مطلوبا منها أن تحتل موقع التجمع الدستوري الديمقراطي، وحتى يدرك الناس والأحزاب أيضا أن الإدارة شيء وان الاحزاب شيء آخر.
على أن أتهيأ للاجتماع القريب.
أعرف السؤال الكبير الذي يطرحه المناضلون دائما، وربما يطرحه الرأي العام: هل ستطمئننا أم ستخيفنا؟
وتعودت صيغتي في الاجابة: انا لا أبيع طمأنة، ولا أروج خوفا. سأحملكم مسؤولية بلد.
وسأذكر بالصفقة التي افتتح بها كل لقاءاتي: دون سقف في الزمن وفي نوعية القضايا. ومقابل هذا علينا التعهد أن يكون الفهم من أجل الانتشار والاقتراب من الناس. فالمناضل لا يخشى الناس. لأنه منهم.
أنهيت في الذهن ترتيب الاجتماع. أستطيع الان التفرغ لقراءة كتابي.
__________
السفر هي فرصة للقراءة والكتابة. أعرف أني أضحي بمتعة التأمل في مشاهد الطبيعة. ولكن ماذا نفعل؟ في الحياة لا يمكن ان نكسب كل شيء. كيف يمكن لسياسي أن يتقدم دون أن يعيش عصره، ودون أن يستنير بثمرات عقول أخرى؟
اقتني كتبا كثيرة. وأسرق الوقت للقراءة. وللكتابة أحيانا. لعلي أترك على هذه الارض شيئا من الأثر. علما في صدور بعض الناس.
في سفرتي هذه اخترت رفيقا كتاب Jacques Attali : urgences françaises /2014
القراءة عملية مركبة. اختيار الكتاب تخضع لحاجة اللحظة، والقراءة ذاتها إنما تحصل من خلال شبكة من الاهتمامات والانشغالات. عندما نقرا كتابا فإنما نعيد إنتاجه من جديد. والكاتب الجيد هو الذي يترك مساحات لقرائه لمشاركته فعله الإبداعي.
لم يخيب المضمون انتظاراتي. بل فاجأني. المستشار السابق لفرنسوا ميتران لمدة عشرين سنة كان واضحا وصريحا. يتحدث عن فرنسا، الان، فاذا هي، عنده، مهددة بالانهيار و الديمقراطية مهددة بالانكسار. شخص الأوضاع فكان متشائما، واقترح الحلول فكان متفائلا. تذكرت غرامشي: le pessimisme de la raison, l’optimisme de la volonté
لمن تجاوزوا الخمسين مثلي اتذكر البرنامج اليومي لـ “ابو طه” في الإذاعة الوطنية: “قرأت لكم”.
فاقترح هذا التقديم الصغير، مع بعض المقتطفات، من ترجمة شخصية:
بنية الكتاب سلسة، تنطلق من تأملات واسعة حول الأوضاع في العالم والتغيرات العميقة التي تحصل فيه، مع تشخيص للحالة الفرنسية، مجتمعا ودولة، في مواطن قوتها ومواطن ضعفها، تفضى إلى أن فرنسا في مفترق طرق، بين استمرار حالة الجمود المفضية إلى الانحدار، وانتهاج سبل المبادرة والتقدم. ويقترح في فصول السياسات والإصلاحات والإجراءات التي يمكن أن تنقذ فرنسا من وضعية المحافظة، وينتهج اسلوبا بيداغوجيا للإقناع، والتدويلي بواقعية ما يطرح استنادا لتجارب كثيرة لدول وشعوب تجاوزت عنق الزجاجة مع ابراز الخصائص المشتركة لهذه المغامرات الناجحة.
ينتهي الكتاب بإبراز الورشات الكبرى للاصلاح، ونوعية الحوكمة المطلوبة.
__________
مقتطفات:
– القضية اليوم هي قضية حياة او موت، بالنسبة لفرنسا، وبالنسبة للديمقراطية. الأزمة هنا، منتصبة أمامنا. ستصاحبنا ربما إلى وقت طويل. أزمة اقتصادية، واجتماعية، وثقافية وسياسية. يمكن لفرنسا أن تتجاوزها. ولكنها يمكن أيضا أن تتقهقر لأمد طويل. علينا أن نتحرك، جميعا، وبسرعة.
– هذا البيان موجه (ايضا) لـ “النخب” السياسية والاجتماعية في البلاد (سياسيون من الرجال والنساء، نقابيون من العمال والأعراف، موظفون كبار في الإدارة، مسؤولون في عدد كبير جدا من المؤسسات…). كثيرون من ضمنهم يفضلون المحافظة على ما عندهم من امتيازات بدل المغامرة بتحضير المستقبل. وهكذا، ومنذ خمسة عشرة سنة على الأقل، وهم يعتقدون في إمكانية المحافظة على نسق حياتهم من خلال الزيادة في الإنفاق العمومي والتقليص في الضرائب، في تجاهل صارخ لمتطلبات الأجيال القادمة.
– ان الامر الاكثر أهمية من الإجراءات المطلوبة في الأشهر القليلة القادمة، هي مسألة الإرادة. هل نحن مستعدون لمواجهة العالم كما هو، واتخاذ الوسائل الملائمة، مع ابتسامتنا الواثقة؟
– حجم الدولة يتزايد، في الوقت الذي تتراجع فيه سلطتها.
ولعل أخطر ما استرعى انتباهي في هذا التشخيص الصارم هذا التأكيد:
– عندما لا يجد الطلب المتزايد على قوة السلطة استجابة في الإطار المؤسساتي القائم، عندما تبقى السلطة السياسية صامتة أو يتضح انها عاجزة، عندما تعطي كل أصناف النخب الانطباع الاهم لها سوى مصالحها، حينها تنفتح الأبواب أمام أكثر الاحتمالات سوءا.
– هذه السياسة التي تفضل التشغيل، مهما كان عائده، على منحة البطالة، تعد اليوم نجاحا كبيرا في المانيا.
وبعد أن يعدد تجارب أمم مرت بأزمات ونجحت فيها في السنوات أو العقود القريبة (المانيا/ السويد/ كندا/ إيطاليا/ بولونيا/ المكسيك)، يعدد الخصائص المشتركة للمعالجات الإصلاحية:
• وعي مشترك بالخطر القادم نتيجة سنوات من النقاش العمومي العميق والصريح..
• رؤية واضحة للبرنامج الإصلاحي.
• مبادئ عمل مبسطة، تميز، وتفضل، سياسة النجاعة على سياسة التقشف، مع انشغال دائم بالعدالة الاجتماعية من أجل توزيع أقرب ما يكون من العدالة لأعباء الإصلاح.
• تشريك مستمر للمعارضة وللأطراف الاجتماعية في التفكير والتقرير.
• اعتماد سياسة اتصالية ناجعة توضح للرأي العام باستمرار، وبصراحة، طبيعة الإصلاحات وتكلفتها وآمادها، مع الحرص على رضع الإجراءات الجزئية ضمن افق وأسع.
• الاستناد الى فريق حكومي مضيق، متضامن، وجريء، وحرفي.
• مواصلة الإصلاحات المنتهجة من طرف الحكومات السابقة إذا كانت مفيدة للبلاد.
__________
انهيت الاجتماع
يجب ان يكون لنا التواضع والشجاعة للتعلم. ونتعلم من قراءة الكتب التي تحتوي خبرة الأمم وتأملات الحكماء، قدر ما نتعلم من الحوار مع الاصدقاء، قدر ما نتعلم من مخالطة الناس.
في طريق العودة كنت أسترق بين الحين والآخر النظر الى جبل سيدي عبد الرحمان.
المناظر جميلة، وستكون أجمل بعد بشائر خريف ماطر.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock