تدوينات تونسية

في مديح السادس من نوفمبر

كمال الشارني
(الصفحات الأخيرة من كتاب “أحباب الله”):
صبيحة يوم السادس من نوفمبر 1988، السجن المدني بالقصرين:
كان مدير السجن يتلو الأسماء على المساجين مسؤولي الأجنحة والغرف، ليكرّروها في كلّ أركان السجن. صرخ السجين المسؤول عن غرفة العملة الكبرى بصوت يشبه العواء:
– كمال بن عمار بن علي الشارني، دبشك والبره
لم تكن لي أدباش ولا حقيبة أصلا، تبرّعت بما لديّ من ملابس معدودة لمن رغب فيها، ولم أحمل معي من السجن سوى الرسائل السبع والأربعين من أسرتي ومن أصدقاء انتهوا إلى نسياني تماما.
لم يكن الإفراج عنّا سهلا، بسبب كثرة عدد المفرج عنهم ذلك اليوم، وبقينا مصطفّين أمام بوّابة ساحة السجن التي تفضي إلى الإدارة. كان على مسؤولي السجن أن يتثبّتوا في أسمائنا وهويّاتنا واحدا واحدا، ثم مقارنتها بقوائم المفرج عنهم والتي جاءت على ثلاث مراحل. تعطّل تقدّم الصفّ بسبب أخطاء في الأسماء كما وردت في برقيات الإفراج، وتبيّن أنّ اثنين على الأقلّ ممن تمّت دعوتهم لم يكونا معنيين بذلك وكان عليهما أن يواجها خيبة العودة إلى الغرف.
استمرّ تقدّم المساجين في الصفّ من الساعة العاشرة حتى الواحدة بعد الزوال عندما وقفت أنا أخيرا وحيدا أعزل إلاّ من ذاكرتي أمام بوّابة السجن المعدنية الزرقاء دون أن أدري شيئا عمّا حدث بعدي في هذا العالم. تأمّلني أحد الحرّاس طويلا وأنا ما أزال في الصفّ، دعاني إلى غرفة جانبية حيث عانيت لآخر مرّة في حياتي محنة الخضوع للتفتيش في السجن. سألني نائب المدير باستفزاز:
– هل أنت واثق أنك لم تحمل معك أيّة مذكّرات؟
كنت قبل ذلك بيومين قد استودعت كلّ أوراق المذكّرات والقصاصات في مظروف مغلق عند سجين أهله في حيّ النور في مدينة القصرين. دفعت له عشرين علبة سجائر ثمنا لهذه العملية لأنه كان يشتغل يوميا في مكاتب إدارة السجن وكان في مقدوره أن يرى أهله كلّما شاء مباشرة ودون مراقبة مقابل رشوة سخية دفعها أهله. وعدني وكنت واثقا من صدق وعده بأن أستعيد وثائقي بعد أقلّ من ساعة من مغادرتي السجن لدى شقيقه الذي سينتظرني في مقهى وسط مدينة القصرين ليساعدني على الوصول إلى محطّة النقل.
لم أجرؤ على النظر إلى نائب المدير في عينيه خوفا من محنة اللحظات الأخيرة ثم قلت له:
– لقد مزّقت أنت بنفسك كلّ الأوراق
قال بتحدّ:
– أعرف أنّكم ملاعين، تقدرون على كلّ شيء، ها أنا أحذّرك، العالم ليس كبيرا كما تتخيّل، إنّ نشر أية مذكّرات في أيّ مكان سيعيدك هنا إلينا.
ثم أضاف بلهجة نصح:
– من الأفضل لك أن تفكّر في مستقبلك بعيدا عن السياسة، لقد عفت الدولة عنك، فحاول أن تكون في المستوى، حاول ألاّ تعود إلينا.
تأمّل حزمة الرسائل المربوطة بخيط رفيع من الكتّان الأسود، وتفقّد بعضها، وزنها بيده ثم قال لي بتقرير نهائي:
– من المستحسن أن تتخلّص منها، سوف أحرقها هنا وتنتهي من هذه الذكريات السيّئة.
لم أحتمل ذلك، أمسكت الرسائل من يده دون عنف إنما بتصميم:
– هذه الرسائل ملك لي، حقّي وليست ممنوعات.
– نحن الذين نقرّر ما هو ممنوع، هل ستقدّم لنا دروسا في ما يجب أن نفعله؟ تذكّر أنّك مسجون، حتى وإن غادرت السجن، فسوف نأتي بك عندما نريد، أيدينا تطالك أينما ذهبت.
– لكني تمّ العفو عني.
– ليس عفوا يا جاهل، لم يعف عنك أحد، لقد منحوك سراحا شرطيا لما بقي من عقوبتك، بضمان إدارة السجن في حسن سلوكك، يعني أنه بإمكاني إعادتك إلى غرفة السجن لما تبقّى لك من العقوبة، وهنا بإمكاني أن أجعلك تتعفّن في غرف العزل الانفرادي حتى السادس والعشرين من شهر جانفي القادم، تاريخ نهاية عقوبتك.
– هذه الرسائل هي ذكريات من أمّي.
قلت له ذلك بنبرة تشبه التوسّل، نظر إلى وجهي مرّة أخرى، لم أنظر في عينيه، سلّم لي حزمة الرسائل أخيرا ثم أمرني بالعودة إلى الصفّ. تثبّت أعوان السجن في هويّتي في ملفّي، سلّموني تسعة دنانير وستمائة ملّيم بقيت لي مما اكتسبته من العمل في ورشة النجارة بالسجن، لكنهم لم يسلّموني شيئا مما تمّ حجزه من وثائق وأوراق ومال كانت لديّ عند إيقافي في مركز الشرطة بتاجروين.
سلّموني أيضا بطاقة السراح الخرافية، التي ستبيح لي إن لزم الأمر استعمال وسائل النقل العمومي مجانا ذلك اليوم وتركوني أنطلق نحو البوّابة الخارجية.
من سقيفة البوّابة الخارجية المظلمة، يبدو باب خروج المارّة الحديدي صغيرا، إنما ينطلق منه ضوء نهار غائم وفحيح ريح باردة منتصف نهار يوم 6 نوفمبر 1988. آه يا أبي، ماذا أقول؟ في هذه اللّحظة سأتحرّر من العالم السفلي للسجن وسأجد أخيرا، وليس في أحلامي نهاية لنفق المحنة التي تردّيت فيها مساء يوم 13 جانفي 1986.
تجاوزت عتبة الباب الصغير المفتوح من بوابة السجن الحديدية الضخمة، تعمّدت أن لا أنظر إلى أبعد ممّا تتطلّبه الخطوات الأولى في الحرّية.
توقّفت للحظات عاجزا حقيقة عن مزيد التقدّم، لم أعد في السجن، يتطلّب ذلك فهما أعجز عنه. لقد خرجت من النفق، من تحت الأرض إلى ما فوقها، إلى أناس أحبّهم ويحبّونني حقّا. لقد عدت إلى التاريخ الحقيقي لحياتي.
أتأمّل ما حولي: تراب وحشائش جافّة أمام قدميّ، هدير محرّكات السيّارات من بعيد، ضجّة لا أفهمها وأصوات فقدت علاقتي بها تأتي من بعيد، أرفع بصري فأرى المكان: أخيرا يمكن للبصر أن يمتدّ إلى ما أبعد من جدران السجن، الصورة غائمة لكن الأذن تلتقط أصواتا غير أصوات المساجين، سيّارات تعبر الطريق القريبة، عمّال يفلحون الأرض غير مبالين، رياح خفيفة تحمل التراب وأوراق الأشجار. بعض المساجين الذين سبقوني يرتمون في أحضان أقاربهم الذين جاؤوا لاستقبالهم. نظرت طويلا نحو الأحياء البعيدة حيث اكتشفت أن السجن كان في طرف المدينة، ترتعش ركبتاي وأنا أتقدّم بحذر على الطريق الفرعية التي تؤدّي إلى طريق رئيسية نحو وسط المدينة. لقد عشت هنا، تنفّست هواء هذا المكان لعام ونصف دون أن أقدر حتى على تخيّل ملامحه.
أحسّ بالغربة والخوف، وأنظر خلسة إلى وجوه المارّة متوقّعا أن يعرفوا أني سجين مفرج عنه منذ لحظات، لكن لا أحد يلتفت إليّ أو يهتمّ لمشيتي المرتبكة، لقد فقدت القدرة على المشي السليم في العالم الحرّ المطلق، وجدت نفسي غير قادر على تقدير خطواتي وإعطائها معنى أو إيقاع مشي متّزن. أقف في المفترق خائفا من السيّارات والمارّة مكتشفا أني فقدت القدرة على تبيّن المسافات إزاء السيّارات. أتقدّم بحذر وخوف ملتزما أقصى الرصيف الأيمن، بحثا عن المقهى الذي سأجد فيه قريب السجين الذي استودعته مذكّراتي. لم أفهم شيئا من مدينة القصرين واضطررت للسؤال أخيرا عن محطّة النقل التي أرشدني إليها مجموعة تلاميذ، حيث وجدت المقهى المطلوب قريبا منها. عرفني قريب السجين ودعاني لاحتساء قهوة احتفالا بالإفراج عني. كان كريما جدّا وأصرّ على دعوتي للمبيت لديه، قلت له:
لم أحظ بالعفو، إنه سراح مؤقّت ويمكن لهم أن يعيدوني إلى السجن في أية لحظة إذا لم أعد إلى عنوان بيتنا المسجّل لديهم، ثم إن أهلي ينتظرونني في الكاف، يجب أن أرحل فورا إليهم.
إذن، لم يبق لك سوى ربع ساعة على آخر حافلة نحو الكاف.
يقدّم لي، أخيرا، أوراق مذكّراتي الملفوفة في سلّة بلاستيك سوداء والتي ستصبح فيما بعد نواة هذا الكتاب، وهو ينظر يمينا وشمالا في اطمئنان أخير ونهائي خوفا من عين جاسوسة. يرافقني حتى محطّة النقل حيث أدركت الحافلة الوحيدة نحو الكاف.
يلتصق وجهي ببلّور نافذة الحافلة وأنا أتأمّل العالم الذي حرمت منه سنين وتمتلئ عيناي بالدموع، التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية، كلاب تنبح على الحافلة وهي تجري على حافّة الطريق، أطفال يلوّحون لنا وتلاميذ يحثّون الخطى عائدين نحو بيوتهم المتناثرة فوق الروابي البعيدة. “يا أحباب الله، أيّ أحلام ستحفزكم في مثل تلك السنّ لو توقّعتم يوما أن يكون مصيركم السجن مثلي؟”.
سأظلّ مشدوها بمشاهد الحياة كأني آت من عصر آخر، حتى أصل إلى مدينة الكاف. لم يترك لي أبي غير ثوان في المحطّة وهو يتركني أقبّله ثم أمتطي معه سيارة استأجرها للغرض. أدركنا بيتنا في سدّ ملاق مساء، قبل الغروب بقليل تحت مطر خفيف، إنما مسترسل منذ أيام في الجهة كلّها. لم أجد الوقت بين عشرات المهنئين بالإفراج عني لكن بيتنا لم يعد كما تركته قبل الإيقاف. ثمّة أشياء تغيّرت إلى الأبد ولن تستعاد إلاّ في خيالي وحدي. تغيّرت أشياء كثيرة بعدي، رحل أشخاص من الأسرة، كبر آخرون، خصوصا أصيبت أسرتي بطريقة كارثية لا علاج لها: انقطع كل إخوتي عن الدراسة وكان عليّ أن أواجه العديد من الديون التي تورّطت فيها الأسرة بسبب السجن وخصوصا أن أعود إلى الحياة العادية، بدءا باكتساب هوية عبر بطاقة التعريف الوطنية ثم البدء بإجراءات العودة إلى الدراسة لاجتياز امتحان الباكالوريا.
كانت تلك نهاية النفق، إذ لا شيء يساوي الحرّية حتى مع الجوع، ولا شيء أكثر فظاعة من السجن، خصوصا وقد كنّا أبرياء، كنّا أطفالا، أحباب الله.
samir

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock