تدوينات تونسية

بعيدا عن الدعاية : المجلس الأعلى للقضاء وحقيقة الإختراق !!!

أحمد الرحموني

رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء

هناك من التبس عليه الامر واعتقد اني -في انتقادي لنتائج انتخابات المجلس الاعلى للقضاء- لا اناصر “مبدا الانتخاب” كآلية مبدئية في تركيبة المجلس وهو استنتاج يتجافى مع اعتقادي فضلا عن تعارضه مع المعايير الدولية لاستقلال القضاء.

وهناك من غاب عنه ان تاسيس مجلس اعلى للقضاء -في مرحلة الانتقال الديمقراطي وعلى انقاض مجلس استبدادي- يقتضي بناءه لا فقط طبق آليات اجرائية (انتخابية) بل يستوجب الامر الاحتياط لضمانات النزاهة والحياد والاستقلال حتى لا يحافظ المجلس الجديد على مقومات النظام القضائي القديم التي اتسمت بالموالاة والانسجام وتطبيق التعليمات زيادة على مظاهر الفساد الاخلاقي.

ولذلك فان ادراك الغاية الاساسية من تاسيس المجلس الاعلى للقضاء وهي حماية القاضي وحسن سير القضاء واحترام استقلاله ضمانا لحقوق المتقاضين يطرح -في مواجهة النتائج الانتخابية الاخيرة- تساؤلات جدية حول نزاهة تركيبة المجلس الاعلى للقضاء لا حول نزاهة العمليات الانتخابية (التي تمثل الجانب الاجرائي للانتخابات في مواجهة مضمونها الاخلاقي).

ولعل التسرع في قراءة النتائج وعدم التعمق في دلالاتها وتعمد انتهازها لاغراض شخصية او حزبية او قطاعية…الخ قد اوقع الكثير من الملاحظين اما في محاذير الدعاية او المغالطة (التي دعتهم الى تضخيم الحدث للايهام بانجازات) واما في اخطاء التقييم او القراءة السطحية (التى دفعتهم الى ابراز القشور والمظاهر الهامشية) واما في متابعة اطراف سياسية او حتى مهنية (تسعى الي الانقضاض على المجلس وتوظيفه لفائدتها).

وللاقناع بفكرة اساسية مفادها ان النتائج الاخيرة -على خلاف ما يعتقده الكثير- كانت بمثابة الاشعة التي كشفت -على الاقل بالنسبة للقضاة- مواطن الامراض الموروثة اكثر من ترسيخها لممارسات ديمقراطية نعرض -على سبيل المثال- جانبا من المعطيات المتعلقة بانتخابات مجلس القضاء العدلى وبالتحديد الانتخابات الخاصة بالقضاة من الرتبة الثالثة.

1. يشار الى ان مجلس القضاء العدلي يستمد اهميته المطلقة من اشرافه على اغلبية القضاة التونسيين (باستثناء القضاة العسكريين الذين يخضعون الى مجلس خاص) اضافة الى ممارستهم لاغلبية الاختصاصات القضائية حيث يعد القضاة العدليون اكثر من 85 بالمائة من مجموع القضاة الممثلين للاصناف الثلاثة (عدلي – اداري – مالي). ويذكر في هذا السياق ان العدد الجملي لكافة القضاة يصل الى 2506 من بينهم 2168 قاضيا من الصتف العدلي و 163 من الصنف الاداري و 175 من الصنف المالي. ومؤدى ذلك ان مجموع قضاة الرتبة الثالثة (698) مثلا يتجاوز ضعف القضاة الاداريين و الماليين (336) ومع ذلك تتساوى المجالس الخاصة بالاصناف الثلاثة في عدد الاعضاء من القضاة او غيرهم (15 لكل مجلس قطاعي).

2. يلاحظ ان اهمية الرتبة الثالثة من القضاء العدلي ترجع الى طبيعة المسؤوليات التي يتولاها قضاة هذه الرتبة ورئاستهم لقضاة الرتبتين الاولى والثانية واشرافهم على ادارة المحاكم والمؤسسات القضائية بالنظر الى احتكارهم ارفع المناصب واكثرها نفوذا (الرئيس الاول لمحكمة التعقيب ووكيلها العام ورؤساء دوائرها والوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف ورؤساؤها وبقية اعضاء النيابة العمومية لديها ورؤساء المحاكم الابتدائية ووكلاء الجمهورية لديها وقضاة التحقيق الاول..الخ).

3. يتبين من تركيبة المجلس الاعلى للقضاء ان عدد قضاة الرتبة الثالثة يتفوق اضافة لذلك على الرتبتين الاخريين بالنظر لما ينص عليه القانون المنظم للمجلس الاعلى للقضاء (الفصل 10) من عضوية 4 قضاة معينين بصفاتهم وجميعهم من اصحاب الوظائف العليا بالرتبة الثالثة (الرئيس الاول لمحكمة التعقيب ووكيل الدولة العام لديها ورئيس المحكمة العقارية والرئيس الاول لمحكمة الاستئناف بتونس). وبناء على هذه المعطيات فان تمثيلية قضاة الرتبة الثالثة بالمجلس تنفرد بنسبة 40% في مقابل تمثلية بقية القضاة وغيرهم من الاصناف (3 محامين – مدرس – عدل منفذ) وبنسبة 60% في مقابل تمثيلية القضاة من الرتبتين.

4. يلاحظ ان تلك الاهمية والحضور المرتبطين باعضاء الرتبة الثالثة من شانهما المساهمة في توسيع نفوذهم داخل المجلس خصوصا اذا علمنا ان الترشح لرئاسة المجلس (في جلسته العامة) ومجلس القضاء العدلي مقصور على القضاة الاعلى رتبة دون غيرهم.

5. يتضح ان مشاركة القضاة من الرتبة الثالثة من القضاء العدلي قد تجاوزت نسبة 70% من مجموع المرسمين وان الناخبين بصفة فعلية يعدون 528 قاضيا. غير ان فوز مرشحين من هذه الرتبة وهما مليكة المزاري (198) وخالد عباس (156) قد تم خارج القوائم الانتخابية المعلنة او المكشوفة التي قدمت بصفة اساسية من جمعية القضاة التونسيين ونقابة القضاة التونسيين.

6. يتبين بصفة مباشرة من نتائج الانتخابات الخاصة بالرتبة الثالثة من القضاء العدلي ان اقصى ما بلغه التصويت على الترشحات الفردية لم يتجاوز 90 صوتا (المترشح سامي بن هويدي) وان قائمة جمعية القضاة التونسيين التي ضمت مترشحين اثنين لم تحصد على الاقصى الا 144 صوتا (كلثوم كنو).

وفي ضوء هذه المعطيات -وبمعزل عن الصفات الشخصية للمترشحين الفائزين بتلك الرتبة- ثار التساؤل حول قائمة خفية تم الحديث عنها بتواتر في اوساط القضاة وصدرت التعليمات بدعمها من قبل مسؤول قضائي (من الرتبة الثالثة) الى سائر المسؤولين بالمحاكم وتحت تاثير مباشر لوزير العدل الاسبق السيد نور الدين البحيري (وهي معطيات ثابتة لا تخفى على اغلبية القضاة وبالاحرى قضاة الرتبة الثالثة).

7. يبدو من الاكيد ان اختيار خالد عباس من قبل الجهة السياسية كان متعمدا ومدعوما بالصلات الشخصية التي تجمع بينه وبين المسؤول القضائي وخصوصا لارتباطه المباشر بالانقلاب الذي نفذه في 3 جويليه 2005 ضد المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين.

ودون الخوض في وقائع ثابتة -سواء باحكام او بتقارير دولية ووطنية او بشهادات او ببيانات او بتصريحات- فان انتخاب خالد عباس يمثل اختراقا فادحا للمجلس ويجد تفسيره المباشر في التحالف بين بقايا “الفساد القضائي” الموروث وواقع “الفساد السياسي” بعد الثورة.

ومن الملاحظ ان خالد عباس الذي يفتقر لادنى شروط النزاهة والكفاءة لم يعرف له اي نشاط عمومي منذ تنفيذه لذلك الانقلاب على عهد وزير العدل الاسبق البشير التكاري وترؤسه للجنة مؤقتة موالية للسلطة ومشاركته في تنظيم مؤتمر استثائي سنة 2005 كان سببا في ارتهان جمعية القضاة ومعاناة العشرات من القضاة على امتداد 5 سنوات كاملة.

8. ومن الواضح ان هذا الاختراق -بما يحمله من دلالة سلبية في اول انتخابات تتعلق بالمجلس الجديد- يجب ان يعيد الحديث بجدية عن اولوية الاصلاح للمؤسسة القضائية وواقع الاعتلال الذي يشكوه “الجسم القضائي” بعيدا عن المزايدات وحملة المغالطات التي يقودها السياسيون وبعض الغافلين من القضاة اساءة لاستقلال القضاء و اضرارا بالمتقاضين!!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock