تدوينات تونسية

ما الذي يجعلنا نميّز بين الناس عبر الوجوه ؟

الحبيب حمام
وجه الإنسان هو لوحة فنيّة بديعة، أحسن خلقها الخلاق العظيم. الوجه هو هوية الإنسان. نميّز به بين صالح ومحمد وعلي وإبراهيم وخديجة وأسماء… الوجه متكوّن من عناصر قليلة: الجبهة والعينان والأنف والوجنتان والفم والذقن. ما الذي يجعلنا نميّز بين الناس عبر الوجوه؟ شيئان: العناصر ذاتها، والتناسق بينها. العنصر له شكل وألوان وحجم. التناسق هو تباعد العناصر وميلانها عن بعض.
هذا الوجه نراه من بعيد ومن قريب، ونميّز به بين الناس. إذا قدم محمد وصالح من بعيد، لا نستطيع أن نتعرّف عليهما، إلا إذا اقتربا بما يكفي لتمييز هيئتهما (طويل، قصير، بدين،…) ومشيتهما. إذا لبسا جبتين أو قميصين يصعب تمييز الهيئتين والمشيتين، فلا نفرّق بين الشخصين حتى وإن كان على بعد 30 مترا. ولكن عند هذا البعد، يمكن أن نميز بينهما عبر الوجهين. أمر عجيب، كيف ذلك؟ الدقائق (التفاصيل الدقيقة في العين مثلا) هي تتجسد فيزيائيا ببيانات بصرية (optical information) تحتوي على تردّدات عالية (high frequencies). الإشارات البصرية (optical signals) عند انتشارها في الفضاء الحر (propagation in free space) تتلاشى تردداتها العالية بسرعة (في الأمتار الأولى). فالانتشار له فعل المُرشح الأدنى (low-pass filter). فكيف نميّز إذن بين الوجوه من بعيد (20 إلى 30 متر)؟ هناك جواب واحد: عبر الترددات المنخفضة (low frequencies)، أي الاختلافات المغلظة بين عناصر الوجه وتناسقها (configuration). عجيب، الوجوه صغيرة، وعناصرها أصغر، ولها اختلافات مغلظة تجعلنا نميز بينها عن بعد معقول! سبحان الخالق الذي أودع هذه الصفات في الوجه لنتمكن من تمييزه عن غيره! تصميم ذكي بديع حسن، ما أعظم المُصمم! وفي أنفسكم أفلا تبصرون.
أما إذا اقترب محمد وصالح كثيرا، فيصبح الوجه لوحة مُعبرة، لا عن البينات الفيزيائية البصرية فقط، بل كذلك عن البينات الشخصية والنفسية. الوجه الضاحك ليس كالوجه الحزين، ولا كالوجه الصبوح، ولا كالوجه العبوس، ولا كالوجه المرتبك، ولا كالوجه المنقبض، ولا كالوجه اليائس، ولا كالوجه المحبط، ولا كالمستبشر، ولا كالوجه الممتعظ، ولا كالوجه المخيف، ولا كالوجه الذي ينطق شرا … الوجه ينطق؟ نعم ينطق. الوجه هو الهوية.
الوجه هو الإنسان ذاته. ما أبدع مُصمم الوجوه! وما أعظم خلقه! إذا كان الوجه هو الإنسان، فهل خلقه الله لنخفيه بالنقاب وباللثام؟ كلا، هذا يتنافى مع روح الخلق. لا يُعقل أن يضع الله في الوجه من الصفات ما يجعله هوية الإنسان ثم نغطيه. لا تستقيم الحياة إن لم يكن للإنسان هوية، يحملها معه، تدل عليه، وتعكس شخصيته، ويكون العنصر المتكلم (الفم) جزءً منها. لا تستقيم الحياة بدون الوجه، بدون الهوية. والهوية للاستظهار ولا للإخفاء. هكذا خلق الله. فقهُنا يجب أن يُدخل في اعتباراته، زيادة عن النصوص، الآيات الكونية التي يتحدث عنها 60% من القرآن: وفي أنفسكم أفلا تبصرون. كانت هذه تذكرة صباحية،.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock