تدوينات تونسية

“البُرْطْ “.. دُولاَرُهُ، ودُخَانُهُ !!!

عبد القادر عبار
“البُرْطْ “.. مصطلح يطلقه أهل قابس عل كامل المنطقة الصناعية الكيميائية الموجودة بغنوش والتي أنشئت سنة 1968.
أتذكر أني عام 1983، كلما رجعت من قابس المدينة، وانْحدَرْتُ مع الطريق الرابطة بين بوشمة وغنوش مدينتي، بدا أمام ناظريّ، البُرْطُ متربّعا على ساحل الواحة، كالوحش الذي خُلِق ليفترس، مُكشّرا عن دخان أبيض، وأسود، وأصفر مرعب.. تتقيّؤه مداخنه العملاقة السامقة.. تلوّث به السماء وتلطّخ به الهواء.، مع ما تلقيه أمعاؤه من فضلات سامة في البحر، تحرق حشيشه، وتلسع سمكه،. فاستفزّني المشهد ذات مرة، لقول هذا البيت الشعري :
“البُرْطُ” يَنْفُثُ لِلأَهَالِي دُخَانَهُ **** وَالعَرْفُ يَقْبِضُ فِلْسَهُ ودُولاَرَهُ
ثم استَعْصَى عليّ الشعْر فلم أكمل هذا البيت طيلة 33 سنة، رغم محاولات عدة حتى يئست، فتركته مُتَجَمِّدًا، يتيمًا، في الذاكرة،.. ولكن الصدمة التي رجّتني مساء الأربعاء، وإنا في طريقي إلى حيّ “القيطون” بشط السلام، قبل المغرب بقليل، لإلقاء مسامرة بجامع الرحمان.. رأينا تجمّعا حاشدا من الرجال والنساء والأطفال يسدّ الطريق وكأنهم في مظاهرة احتجاجية صاخبة، وهم في وَلوَلة، وبكاء، وفزع، ونحيب، فلما استفسرنا، قيل لنا إن موظفا شابا بالستاق مات منذ قليل، اختناقا، بسبب الأمونياك، الذي تسرب من مداخن البُرط.. هذه الرّجّة حرّكت فيّ شيطان الشعر، وتذكّرت ذلك البيت المخزون في الذاكرة، فولّدتُ له 3 أشقاّء حتى أصبحت رباعية قلتُ فيها :
“البُرْطُ” يَنْفُثُ لِلأَهَالِي دُخَانَهُ **** وَالعَرْفُ يَقْبِضُ فِلْسَهُ ودُولاَرَهُ
والناّسُ في “شَطّ السّلامِ”، شَهيدُهُمْ **** ماتَ اخْتناقاً، فَاضِحًا أَضْرَارَهُ
والأهْلُ في “غنّوش” يَصْعبُ نَومُهُم **** إنْ حَرّكَتْ ريحُ “السّمَاوِي” غُبَارَهُ
الكُلُّ بالموْت الفُجائِي، مُهَدَّدٌ **** مادَام َ هذا البُرْطْ يُؤْذي جَارَهُ.

وكم سمعنا مُرْغَمين، طيلة العهد النوفمبري: “لقد قضى التحوّل المبارك على التلوّث”؟.. فإذن، الثورة هي التي أرجعته ؟ !!.. على كل حال، رحم الله شهداء التلوّث، وحفظ الله جيران هذا الوحش الصناعي الذي خلق ليفترس !!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock