تدوينات تونسية

الحقائق المرفوضة لغاية في نفس المسؤول الكبير

الحبيب بوعجيلة
حين يتعقد المشهد يجب ان نبسط التعقيد ونرتب القضايا بمنهج ديكارتي كي تتوضح صورة يستثمر كثيرون في غموضها.
الصراع الذي عرفته البلاد بعد الانتخابات التاسيسية الاولى غداة الثورة حمل عنوان الصراع بين جبهة الانقاذ التي اصرت على صفتها الديمقراطية التقدمية وقوى الترويكا وانصارها التي اطلقت على نفسها صفة الشرعية والتمسك بالية الانتخاب في مواجهة الانقلاب ونسب لها خصومها صفة الرجعية وتهديد مدنية الدولة ونمط المجتمع.
بعد جريان مياه كثيرة في انهار الحوار الوطني ثم انتخابات الفين و اربعطاش وتصدع جبهة الانقاذ والنداء وتكاشف الشقوق ثبت ان اعتبار الصراع سابقا بين تقدميين ورجعيين او بين وطنيين وعملاء في المطلق كان مجرد فخ او تكتيك اعتمده الخط السائد في جبهة الانقاذ و هو خط المتضررين من الثورة ممن اعتمدوا الاستقطاب لتفريق صف القوى الجديدة من يسار و وسط و يمين التي تفرقت بين الانقاذ والترويكا وعجزت في الحقيقة عن ادارة خلافاتها وبناء وحدتها الوطنية نظرا لاختراقات او خلافات وتوجسات ايديولوجية موروثة وتخطيط ماهر من قوى مخابراتية لعبت على الجهتين.
بعد انكشاف الحقيقة منذ سنتين تمت مراجعات لدى هذا الطرف او ذاك ولاشك ان قوى الترويكا قد شهدت نصيب الاسد في المراجعات وقد ذهبت النهضة الحزب الاكبر في الترويكا الى حدود الشراكة مع خصمها السابق بقطع النظر عن مبررات هذا القبول.
كتب انصار عديدون للشرعية في نقد طبيعة الصراع واشار كاتب هذه التدوينة نفسه في الاعتراف بغموض برامج الصراع وقتها الى درجة تسرب قوى رجعية غير ديمقراطية ومشبوهة الى قوى الدفاع على التاسيس واستثمار الصراع لتغذية والتخطيط للصدام الدموي. كما كتبنا في سوء اداء بعض مسؤولي الترويكا في احزابهم وحكمهم وتقديرهم للاوضاع الاقليمية والدولية دون طبعا ان نكف على اعتبار ان الصراع في السنوات الماضية لم يكن كما زعم البعض بين ديمقراطيين ورجعيين او بين ملائكة ومجرمين بل انه كان صراعا صنعته بالاساس قوى معادية للانتقال الثوري الديمقراطي وخاضه مخطؤون من الجهتين كان بامكانهم حسن ادارة الاختلاف لو توفر متشبعون برؤية استراتيجية وطنية متعمقة في فكر وحدة الكتلة التاريخية العربية على مشروع تحرر ديمقراطي وطني بدا اسلاميون وقوميون ويساريون عرب في بلورته قبل “ايام الربيع العربي” ولكن تم اجهاضه والتراجع عليه بمجرد بدايات الربيع في تونس ليستعيد العالم العربي اردأ مظاهر صراع الايديولوجيات الميتة وابشع المذهبيات والطائفيات القاتلة.
هذا التنسيب والمراجعة لا تعجب طبعا من يفضحهم كشف حقيقة الصراع الذي دار في تونس في السنوات الماضية. ولكن الغريب ان القوى الديمقراطية حقا واليسارية فعلا والتي وظفتها قوى الردة التي كيفت وجيرت مكاسب جبهة الانقاذ لنفسها واقصتهم.. هذه القوى الديمقراطية اليسارية تصر هي الاخرى على عدم الاعتراف بهذه الحقائق وتواصل اعادة نفس السردية وتجريم كل من انحاز الى الشرعية ورفض الانقلاب الانقاذي وخلط الاوراق والاجهاز على ثورة تونس وانتقالها بلا فاسدين ولا مستبدين.
في اللحظات الراهنة التي يتجه فيها الفرز الى استعادة حقيقته في مواجهة الفاسدين وبقايا الاستبداد يصر “يساريون” و “ديمقراطيون” و “تقدميون” على الاضطلاع بوظيفة قطع الطريق امام كل التئام وطني واسع ويتطوعون من اجل اداء وظيفة معارضة “المعارضة” التي تريد التصدي لنداء التحيل ويتم الاصرار على استعادة استقطابات الانقاذ والترويكا تماما ويصر هؤلاء على اعتبار كل من شارك او ساند الترويكا وعارض اعتصام الرحيل خصما دائما وازليا بل يصر هؤلاء على التسامح حتى مع من خدعهم ووظفهم ثم اقصاهم من الغنيمة ولكنهم لا يقبلون المراجعات المتبادلة ولو كان فيها وحدة لانقاذ البلاد فعلا لا زعما من اعداء الديمقراطية ولوبيات الفساد.
سنظل اذن نذكر ان خطايا من تحالف مع الفاسدين والمستبدين في جبهة الانقاذ اعظم من اخطاء من وقف ضدها حتى لو كان هذا الوقوف قد تسبب في خلط او تسويغ لسوء اداء او تسرب معادين للديمقراطية والتقدم فكوارث المتحيلين ماثلة امامنا اكثر من هواجس مفترضة حكمت من مهد الطريق لنداء الفاسدين.
اذا كان لابد من صياغة مفردات مشروع وطني قادم فسيكون طبعا على قاعدة الديمقراطية والتقدم ولكن الانتماء الى هاتين الصفتين والحق في منحها للبعض ونزعها عن البعض الاخر لن تكون حكرا على احد قبل ان نكشف الحقائق ونفصل التعقيد فكم من زاعم للنطق باسمها يتحمل اليوم وغدا مسؤولية قتلها حين سوغ لاعدائها العودة الى حكم البلاد باسم قطع الطريق على خصومها.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock