مقالات

يتحرشون بالغنوشي

بحري العرفاوي

حينَ جرّهم إلى حلبة الاستعراض المدني

بعد عملية التسليم “لحكومة وحدة وطنية” تغيرت مفردات قاموس التكلم في الشأن العام على ألسنة السياسيين والإعلاميين ولاحظنا تحولا كبيرا باتجاه الحديث عن المصلحة الوطنية ودعم الحكومة الجديدة والإنصراف إلى العمل وخلق الثروات وتخفيف الضغط ومراعاة الظرفية الإستثنائية التي تمر بها بلادنا…وزير الفلاحة الجديد سمير بالطيب أصبح يدافع عن “علوش” الحكومة وليس فقط عن وزرائها ووزير الحوكمة عبيد البريكي لم يعد يهدد بـ”الماكينة” إنما أصبح مسؤولا أكثر مدنية وحكمة من أجل مصلحة الوطن.

هذا التحول لا يمكن إلا أن يكون إيجابيا وعامل تهدئة وتشجيع على العمل والإستثمار والتنمية ولا يمكن إلا أن يكون عامل طمأنة للمواطنين فيشعرون بأن بلادهم بدأت تخرج من العتمة ومن منطقة الأزمات الأمنية والإقتصادية فيكونون أكثر استعدادا للعمل وأكثر اهتماما بمقتضيات التنمية والإنتاج متحررين من الهواجس والكوابيس التي رافقتهم طويلا بفعل العراك السياسي وخطاب المؤامرة وأشباح “الإرهاب” وتهديدات التهريب… لقد انخفضت درجات السخونة السياسية بشكل لافت كما لو أن البلاد دخلت فصلا جديدا وبدون مقدمات.

تخفّفُ حركة النهضة من الجهاز التنفيذي سيكون له أثار إيجابية كبيرة على الحركة نفسها حين تجد أنها قد تخففت من أعباء الشأن العام في شكله الرسمي وأنها أصبحت تتصرف بأكثر حرية بعيدا عن المراقبة اللصيقة والمحاسبة الصارمة فلا تُحَمل منفردة ولا حتى بقسط وافر مسؤوليات فشل التنمية وعدم تحقيق الكثير من مطالب الناس المشروعة. قيادات حركة النهضة سيجدون متسعا من الوقت لمراجعة أنفسهم والوقوف على مواطن ضعفهم ولصرف طاقاتهم الهائلة في إعادة التعبئة لقواعدهم استعدادا للمحطات السياسية القادمة ـ ولعل خصومها قد اكتشفوا أنهم قد ارتكبوا أكبر حماقة حين دفعوا بها إلى خارج الحكومة منذ 2013 ـ وقد أشرت في مقالات سابقة إلى أن الحركة ستدخل “مرحلة التخصيب” تخوض معركة الأفكار وإنتاج المعاني والتعريف بمشروعها في مختلف أبعاده السياسية والفكرية والثقافية والأخلاقية توافقا مع شعارات “ثورة” مشتهاة وانسجاما مع مقاصد شريعة إنسانية مرنة واتّساقًا مع مقتضيات العصر وتكيّفات الحياة المعاصرة.

الحركة مدعوة للإستثمار في “الزمن السياسي” لتتجه في أنشطتها الأفقية باتجاه الجماهير لإقامة الندوات والأمسيات والحوارات ويُنتظر منها التوجه بجدية وفاعلية نحو شريحة الشباب عبر خطاب حداثي وعمل إبداعي وفني مناسب لأسئلة ومشاغل الجيل الجديد وهنا مسؤولية كبرى على عاتق من يتصدون لمهمة “التنظير” حتى لا يكونوا كمن يظن أنه يستجيب للظمأى فيقدم لهم المُكسّرات.

حركة النهضة حققت بتخففها من الحكم انتصارا أخلاقيا ستكون له آثاره الكبيرة في الإنتخابات القادمة وفي علاقاتها الداخلية والخارجية… التاريخ عادة لا يصنعه أفراد ولكن خلاصاته تُنسب غالبا لزعماء وقيادات.. لذلك يرى أغلب المراقبين بأن الأستاذ راشد الغنوشي قد استطاع أن ينتصر للبلاد ولحركته ولنفسه تحديدا من كل خصومه الذين تحالفوا عليه يرشقونه من خلف أكثر من جدار… لقد أفلح في جرهم جميعا إلى حلبة “الاستعراض المدني” بدل “الاستعراض البدني” والبدائي الذي مارسوه طويلا عليه في شخصه وعلى حركته.. استطاع أن يهزمهم في معركة مدنية وأن يُفَرّج عليهم كل العالم “المتحضر” وكم طمعوا أن يؤلبوه على الإسلاميين كونهم غيرَ مدنيين ولا ديمقراطيين.

الإسلاميون لا يُهزمون في معركة الأفكار والمعاني وهم لا يتكاثفون ولا يتمددون إلا في بيئة الحرية وفي أجواء الديمقراطية ولذلك هم أحرص على تهدئة الأوضاع لأن العقل لا يشتغل في الأجواء الصاخبة ولأن اهتياج العواطف والغضب يحجب نور العقل ولأن الحوارات الفكرية لا تكون مجدية إلا في ظل الاحترام وحسن الاستماع.

نسق حركة الإسلاميين السريع هو الذي يزعج خصومهم كما أزعج من قبل بن علي حين طلب منهم التحرك ببطء وحين حدد لهم سقفا لا يتجاوزونه من نسخ جريدة الفجر… “الفجر” رمزية زمنية لأناس يصحون باكرا قبل الشروق وقبل الصباح… ثمة من لا يرتفع صوته إلا في الفوضى ولا تظهر صورته إلا في المشاهد اللاهبة وهؤلاء يخافون من الحرية ومن الهدوء ولذلك لا يكفون عن الصراخ والعويل والتشويش… وحين لا يجدون من يَعرِض نفسه للتجريح والتشويه وحين يجدون أنهم في “حلبة” جديدة للتنافس الفكري والقِيَمي سيجدون أنفسهم في عطالة مقيتة وسينكشف رصيدهم المعرفي والفني والإبداعي والقِيَمي وستجف مصادر التمويل الفاسد التي استعملتهم طويلا في مقاولات العويل الإيديولوجي والمناحات السياسية ومواسم “العزاء” الكاذب. سيسكتون إلى الأبد.. ستقتلهم الحرية بجمالها وعذوبتها وعنفوانها ووقارها.

تعليق واحد

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock