مقالات

الكابوس سياسة العرب التربوية

أبو يعرب المرزوقي

فرض الاستعمار أن يكون يوم الراحة هو يوم الذهاب إلى الكنيسة: يوم الأحد. استقللنا فبقي الأمر على ما فرضه الاستعمار لأنه اختار خلفاءه لحكمنا.
لا أذهب إلى الكنيسة. إذن أنا في البيت. فلأتخيل ان بعض حكام العرب حلم بما يمكن أن يذكره بعظمة الامة ففكر في الشروع في تحقيق شروط الاستئناف.
وأتخيل أنه قد درس كل المحاولات التي بوشرت منذ قرن في بلاد العرب وباءت كلها بالفشل الذريع بل هي جعلت الوضع أسوأ مما كان حتى تحت الاستعمار.
وسأقتصر على مجال التربية. فهو المجال المفضل لدي لأني اعتقد أنه هو أصل الداء وهو موطن الدواء لو كان لنا بين ذوي السلطان بعض الحكماء. كيف؟
وسأتخيل أن الحلم يشمل وجهين من قضية التربية الوجه التربوي بما هو تربوي والوجه التربوي بما هو اقتصادي كلفة وثمرة. ففيم التشاؤم إلى التفاؤل؟
كيف يمر في حلمه من الكابوس إلى الرؤية الصادقة للمشروع الذي يخرج الامة من حالة الضياع التي تمر بها والتي تجعلها نهب كل ناهب ومغتصب كل غاصب؟

نبدأ بالكابوس ونثني بالمشروع. والكابوس يتعلق بسياسة التربية في بلاد العرب من الخليج إلى المحيط. سيرى في كابوسه قوما قد يكونوا صادقين في نواياهم الإصلاحية.
لكن السياسات التربوية لا تكفي فيها النوايا. فجهنم مبلطة بالنوايا الحسنة: من دون استراتيجية ومشروع يحقق أهدافها لا وجود لكيان الأمة ولا معنى للكلام على دولة.
لذلك فقد اختاروا -بحسن نية أو بسوء نية لا يهم فالنتيجة واحدة-كل الحلول التي تؤدي إلى ما نراه اليوم من ازدياد التخلف والتبعية وهم يتصورون ذلك هوالحل الانجع في بناء أمة قادرة على استرجاع دورها.
ظنوا الحداثة متمثلة في أن يواصلوا سياسة المستعمر في بلدانهم: قتل لغتهم وتعويضها بلغته والتخلي عن تراثهم وتعويضة بتراثه والقطع مع ذواتهم والاتصاف بصفات آل إليها حينها.
طبعا سيحافظون على الفلكلور المحلي لغايتين في نفس يعقوب: فهذا يميزهم عن غيرهم في الامة لإضفاء شرعية على الدولة القطرية وهو يسهل سيطرة ثقافة المستعمر لأن الفلكلور لا قوة له أمامها.
فإذا أضفت إلى ذلك تأثير الفضائيات التي تبث بخليط عجيب من اللغات والخادمات غير الناطقات بالعربية فإن النتيجة الوخيمة لن تتراخى كثيرا وسنراها بالعين المجردة في لغة التواصل بين الشباب العربي.
لن أهتم بالمقابلة بين الأصالة والتقليد. لكنـي سأقبل جدلا بأن التقليد يمكن أن يكون حلا: فماذا تقلد؟هل تقلد ما فعل الغرب ليصبح قويا أو ثمرات ما أنجزه بفضل قوته؟
هبنا سلمنا بأنك تريد أن تحقق الحداثة. هل تذهب إليها من غايتها أو تبحث في بدايتها وشروطها؟ أول خطأ: أخذ الحداثة بالمقلوب: ثمرتها دون شرطها.
وسأسمي هذا بمنطق الخواجة الذي فرضه النموذج الشامي والمصري على كل العرب. اصبح الجميع يطلب التغريب لا شروط الحداثة أي ما به تمكن الآسيويون.
نسيت النخب العربية أن الغرب عمل خـمسة قرون ونهب كل ثروات العالم بفضل قوة مادية ورمزية حققتها خمس ثورات: فلسفية وعلمية وتقنية واقتصادية وسياسية اساس التربية الحديثة.
واختصروا الحداثة في نموذج العيش وبحبوحته ولو برهن البلاد واستعباد العباد في وظيفتي الدولة الأساسيتين: الحماية والرعاية. ومن ثم فنحن محميات متسولة.
ومن خصائص المحميات المتسولة أنها لا يمكن أن يكون لها مشروع ذاتي لأنها تابعة ومن ثم فهي ستكون بالضرورة سوق نفايات المتبوع المادية والروحية.
وكانت فكرة من يريدون التسريع في هذا النوع من التحديث المقلوب هي ما يسمى بسياسة الابتعاث.بدأت في مصر وعمت فبلغت الذروة في الخليج: السعودية.
ثم تضاعفت فاختير ما هو أخطر وبه بدأ تخريب النخبة العربية-فعندي أن جامعتين أمريكيتين في بيروت والقاهرة والآن عمت الظاهرة وتعددت (لعل أوضح مثال وأحدثه مثال قطر)-مسؤولتان على التشويه النخبوي العربي.

ما التشويه النخبوي العربي: تحول ما سميته بمنطق الخواجات الذي كان مجرد اغترار سطحي لبعض الباشوات إلى فلسفة أو إيديولوجيا الحداثة المقلوبة.
الحداثة المقلوبة يمكن أن نقول إنها تتلخص في أمرين: الأول هو البدء بالغايات بدل البدايات. والثاني تبني الأساس منظومة التهديم النسقي: القومية العربية.
ولست أعني بالقومية العربية كما يتكلم عليها الغزالي مثلا ويعني بها القوم الناطقين بالعربية في الأمة الأسلامية بل القومية بالمعنى الاثني أساسا للدولة.
وهو تصور تجاوزته أوروبا حاليا لأنها تسعى لبناء مواطنة متجاوزة للدولة الوطنية وقد فعلت لأن القانون الأوروبي صار أسمى من قانون الدولة الوطنية.
فكل ما عرفناه من استبداد وفساد وحكم عسر وتبني للفاشيات الغربية ما بين الحربين أساسه هذه الفكرة التي أدت بالضرورة إلى ردود فعل قومي من جنسها.
فالجزائري لو أصابته لوثة القومية الإثنية المشرقية لما حدثت الثورة اصلا ولأصبح الصراع العربي الأمازيغي مقدما على الصراع الجزائري الفرنسي.
والعراقي لوأصابته لوثة القومية الاثنية قبل ثورة العشرين لما حدثت ثورة العشرين ثم جاءت لوثة الطائفية وهي من أنواع الغزو التربوي: من إيران.
لكن هذه كلفة سياسية لن اعمق البحث فيها حاليا وسأكتفي بما وعدت في التقديم: الكلفة التربوية والاقتصادية. وسأبدأ بالكلفة الاقتصادية لأن مفعولها أبين.
إذا صح ما سمعت عن الابتعاث في السعودية: 100 الف طالب.وكل طالب يكلف على الأقل 10 آلاف دولار شهريا. ولنفرض أن ذلك يدوم 10 سنوات حتى تصبح السعودية في غنى عنه.
فهذا يعني(تقدير فرضي) 100 الف في 10 ألاف دولار في 12 شهر في 10 سنوات اي 60 مليار دولار.ولنفرض أن بقية العرب يصرفون ما يعادله فالمجموع 120 مليار دولار.
وهو تقدير متواضع جدا. ذلك أنه سواء كان من خزينة الدولة أو من ميزانيات الأسر والشركات فهو دائما بالعلمة الصعبة وكلها إثراء للغير وإفقار للذات.
والاستنزاف لا يقتصر على كلفة المبتعثين بل كل ما يتبع من السيارات والهدايا وزيارة أهل المبتعث خاصة إذا كان متزوجا.
من ينكر أن ذلك لو وجه الوجهة المنتسبة إلى مشروع حقيقي لحقق نظاما تربويا أحدث من كل حداثة على نموذج كوريا الجنوبية مثلا ولصرنا مبدعين؟
هل ينتظر من المبتعثين أن يحققوا ذلك؟ أكثر من 80 في المائة ستكون لهم شهادات لا صلة لها بمشروع نهوض حقيقي. والبقية إن نجحوا حقا ووجدوا فرصة للبقاء لن يعودوا.
وحتى لا أبالغ لن يعود منهم إلا القليل القليل. وإذا عاد فقد يهاجر بعد وقت قصير لأنه لن يستطيع مواصلة تقدمه في البحث فضلا عن الاختراع. وهذا عن تجربة.
وغالب المبتعثين في المغرب العربي مغامرون وليسوا حاصلين على منح بل مجتهدون يعملون بالليل ويدرسون بالنهار. وحتى الممنوحون يضطرون له.
كنت ممنوحا. 60 ألف فرنك فرنسا اكثر من نصفها للكراء والبقية لا تكفي للعيش أسبوعا. فكان لا بد من العمل للعيش مع الحرص على التعلم للعودة.
وعندما يعود المبتعث لن يجد نظاما معياره الرجل المناسب في الموقع المناسب وخاصة بعد نهاية الطفرة الأولى التي كانت الدولة فيها محتاجة للخريج.
أصبحت سوق العمل مشبعة وتلاحق الأجيال السريع مع زيادة معدل حظ الحياة (70 سنة) يصبح علة لبطالة الخريجين فيصبح التعليم مصدر البطالة والعدمية.
هذا يكفي فقد استفز الكلام منافقي الوطنية والغيرة على بلادهم لكأني أهاجمهم. ما الحيلة مع السفهاء الذين لا يريدون تحليلا ولا تأويلا: طبل طبل.
هل كوريا الجنوبية أكبر أو أغنى أو أهلها أذكى من أي بلد عربي في حجمها؟ لماذا هي استطاعت أن تصبح نمرا ولا واحد من العرب أصبح حتى قطا؟
قال لي أحد أصدقائي وزملائي الألمان -أحد كبار الباحثين في فلسفة العلم والقانون والاجتماع-إن كوريا الجنوبية وضعت نظام تربية افضل من ألمانيا.
وعرفت أستاذة من كوريا الجنوبية أعدت رسالة دكتوراه في الفلسفة ببريمين وهي راهبة كورية وراهبة مسيحية لم أجد بيننا من هم مخلصون لعملهم مثلها.
صادف أن كان لها عمل في ماليزيا فكاتبتني لكي أبحث لها عن محل سكنى مدة أسبوع بأقل كلفه ففعلت (20 دولار في اليوم في مبيت) وفي نفس الوقت حصل أمر عجب.
كاتبني “مناضل”فلسطيني ينوي زيارة كوالالمبور أتدرون ماذا طلب مني؟ أن أبحث له عن أغلى فندق لإقامة تليق بسيادته. هذا هو الفرق بين التربيتين.
وليس هذا كما يدعي البعض من لعنان البترول بل هو تربية. فماليزيا فيها البترول وافريقيا الجنوبية فيها الذهب والكثير من بلاد العرب لا بترول لها ولكنها مثل التي لها تستمتع.
في العالم كله وفي الحضارات كلها “الترف والبذخ” ثمرة تراكم ما تنتجه الحضارة بذاتها إلا عند العرب: هما العيش “عالة” على الغير في الرعاية والحماية (ابن خلدون).
كنت أتصور أن الإسلام قد حررهم من عقلية العيش على حصر العمل في الإغارة على الغير. بدأ الإسلام بتأسيس مفهوم المدينة قاعدة لدولته والعمل المنتج.
الأندلس مثلت تحقيق ذلك إذ أصبحت من أغنى دول عصرها دون أن يكون لها منهج الإغارة بل كان لها زراعة وصناعة وتجارة. اليوم نحن عاجزون عن الإغارة.
عاجزون عن العمل المنتج. الغرب يجمع بين العمل المنتج والإغارة (الاستعمار) ومن حولنا شعوب تنوي الإغارة علينا ونحن عزل “عيال” (ابن خلدون).
أسمع بعض السفهاء من المطبلين فأعلم: ليس حبا في الوطن كما يزعمون بل ربما غشا في لحظة لم يعد فيها من اليسير معرفة عملاء التقية للغدر بالسنة.
فما يجري في الشام والعراق يراد له أن يعم كل سنة الأقليم وكل من يفكر قطريا اليوم اعتبره من أعداء السنة لانه لا يريد للجبهة السنية أن تتكون.
قد يظن المتسرع أني ضد الابتعاث بإطلاق. وهو سوء فهم. أو قد يظن أني اعيب شيئا على المبتعثين. فاولا أنا نفسي مبتعث. وثانيا المشكل ليس فيه.
الابتعاث من المفروض ان يكون لحاجة. والحاجة يحددها سوقان: سوق العمل المنتج الخاص (لحاجة الاقتصاد والصناعة الخاصين) وسوق العمل المنتج العام (الابتعاث لحاجة الدولة الأعم وشروط السيادة). طبعا لا أنفي الدوافع الشخصية.
كلامي هو الابتعاث في إطار مشروع بناء دولة حديثة قادرة على الرعاية والحماية. ابتعاث غايته الاستغناء عنه في أمد محدد مع بقاء التواصل العلمي.
من الغباء الظن أني مع غلق الحدود أو عدم التواصل العلمي بين جامعاتنا والجامعات الغربية التي تبقى إلى حين قاطرة التقدم العلمي العالمي عموما.
لكن إذا لم يكن الابتعاث أداة في مشروع يحقق الاستقلال الأساسي في مجال الانتاج وإنتاج أدوات الإنتاج وطرائقه فنحن سنزداد تبعية إلى يوم الدين.
بهذا أنهيت الكلام على الوجه الاقتصادي من القضية. فما الوجه التربوي ولن أطيل لأن البحث في المسألة موجود في سلسة مقالات حول أزمتنا الحضارية.
تربويا لا يكون النظام التعليمي ذا فائدة إذا لم يكن مؤسسا على تصور معين للإنسان. نظامنا مبني على نفي الذات ليس بالمعنى الخلقي أي الإيثار.
ليس فيه محاولات لبعث الحي من الذات بل فيه موقف يمكن أن أصفه بموقف “العروي” في المغرب: امسح مات بالتونسي.كل ماضينا مات وينبغي قلب الصفحة.
ولهذه العلة خصصت الكثير من البحوث لبيان أن ما في ماضينا من حي أكثر حداثة وكونية من كل ما يزعمون استبداله به: خلطوا بين جهلهم وحقيقته.
والغريب أنهم يؤسسون هذا الموقف على نفس الموقف الذي يظنونه تقدميا أي على الفلسفة الإسلامية التي غلب عليها شرح النصوص لا الفكر المبدع.
وما تراه اليوم من حلف بين العلماني والليبرالي والباطني والصوفي ليس أمرا جديدا فهوعينه الحلف الذي كان موجودا بين سلفهم منذ القرن السادس-الثاني عشر.
فجميعهم سلفهم هو الباطنية (اخوان الصفاء) والاعتزال الذي لا يمكن أن يكون مآله إلا الباطنية لأن أسسه من نفس الطبيعة: تحريف مفهوم العقل.
فالفلسفة سيطرعليها فهم رديء للأرسطية (ابن رشد) وللأفلاطونية (السهروردي) وللنظر والعقد الإسلامي (الرازي) وللعمل والشرع الاسلامي (ابن عربي).
وتلك هي المدرسية التي آلت إلى موت الفكر الفلسفي والديني ونحن الآن نعيش نفس المدرسية التي تقتلهما باسم المتكلين باسم كاريكاتور الحداثة وكاريكاتور الأصالة وحماقات الدجل الفلسفية والدينية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock