تدوينات عربية

ولايات أو دول ؟

أحمد القاري

يوم 4 يوليوز 1776 قررت 13 مستوطنة في أميركا الشمالية التمرد على سلطات ملك إنجلترا بعد أن أرهقها بالضرائب والقرارات المجحفة إداريا وقضائيا وعسكريا.

ونص إعلان الاستقلال على ما يلي:
“نحن ممثلو الدول المتحدة الأميركية في المؤتمر العام الملتئم راجين من حاكم العالم الأعلى السداد، نشهر ونعلن باسم شعب هذه المستعمرات الطيب وسلطته بمهابة وجلال أن هذه المستعمرات المتحدة هي، ومن حقها الواجب أن تكون، دولا حرة مستقلة، وأنها في حلّ من أي ولاء للتاج البريطاني، وأن كل ارتباط سياسي بينها وبين دولة بريطانيا العظمى قد حل وينبغي أن يحل كليا، وأنها كدول حرة مستقله تملك السلطة الكاملة في شنّ الحرب وتحقيق السلام، وعقد التحالفات وإنشاء التجارة وممارسة كل الأعمال والأمور التي من حق الدول المستقلة ممارستها. وإننا، تأييدا لهذا الإعلان واتكالا تاما على حماية العناية الإلهية، نتبادل العهد بأن يبذل كل واحد منا في سبيل الآخر حياته وماله وشرفه المقدس.”

بهذا الإعلان تحولت المستوطنات إلى دول. و إن جرت العادة بترجمة كلمة State في الإعلان إلى ولاية بناء على الصيغة المستخدمة حاليا. لكن الإتحاد الناشئ بموجب الإعلان كان كونفيدرالية بين دول مستقلة، و لم يتم تحويله إلى فيدرالية إلا بوضع دستور 1788. كما أن الكلمة الإنجليزية تعني في العربية دولة و ليس ولاية.

نسقت الدول المستوطنات فيما بينها خلال حرب الإستقلال. و اعتمدت “مواد الكونفدرالية” دستورا. و جعلت السلطة الكونفدرالية في كونغرس تملك فيه كل دولة صوتا واحدا وإن تعدد مندوبوها.

ظلت الدول تصدر عملاتها الخاصة و قوانينها و كانت التجارة بينها تخضع للجمركة، ولم تكن معاملتها الجمركية للواردات منسقة. كان لكل دولة ميليشياتها وتأخرت عدد منها في الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الإتحاد، مما أدى لتأخره في الوفاء بديون الحرب وبأجور الجنود المقاتلين في حرب الإستقلال.
تبين سريعا أن الإتحاد الكونفدرالي لن ينجح. كانت بدون سلطة تقريبا. و كان اتخاذ القرارات في الكونغريس يعرقل بسهولة للحاجة لإجماع كافة الدول عليه. اعتراض دولة واحدة كان يسقط القرار. أصبح الإتحاد الوليد على شفا التفكك أو السقوط بيد الغزو الخارجي.

اتفق الكونغرس، والكونفيدرالية على حافة الإنهيار، على مراجعة “مواد الدستور”. و تحولت المراجعة التي قامت بها هيأة تأسيسية ممثلة للدول إلى كتابة دستور جديد يقوم على مبدأ الفدرالية. تم الإحتفاظ للإتحاد بنفس اسمه السابق “الدول المتحدة الأميركية”. ولكن بحكم أن هذه “الدول” اندمجت في كيان واحد، يمكن قبول التحدث عنها بعد الفدرالية باعتبارها ولايات.
بموجب الدستور الجديد تم النص على أن يتم تقاسم السيادة بين الولايات والدولة المركزية. وأن يصبح إصدار العملة والعلاقات الخارجية والجمارك صلاحيات حصرية للدولة الفدرالية.

وحرصا على صلاحيات الولايات تم النص على أن يكون الأصل أن السلطة للولاية إلا ما نص الدستور صراحة على أنه للفدرالية. وجعل الاحتكام في حالة الخلاف للمحكمة العليا الفدرالية.
الولايات الصغيرة خافت من ديمقراطية تؤدي لضياع صوتها فتم التوافق على نظام جمهوري وليس بالضرورة ديمقراطيا. ومن هنا جاءت فكرة تكوين الكونغرس من مجلسين، واحد يمثل العموم وهو مجلس النواب وتحدد عدد ممثلي الولاية فيه بناء على عدد السكان مع حد أدنى هو ممثل واحد. ومجلس شيوخ تتساوى فيه الولاية الصغيرة مع أكبر الولايات و إن كانت أكثر منها سكانا بخمسين ضعفا.
ولا يمكن تمرير قانون إلا بموافقة مجلس النواب ومجلس الشيوخ. مما يجعل ممثلي أقلية من السكان قادرين على التأثير وحتى التحكم بالبرنامج التشريعي.
وكحل لطريقة انتخاب الرئيس قرر واضعو الدستور أن يكون التصويت غير مباشر. فالرئيس يتم اختياره من ناخبين كبار. ولكل ولاية عدد من الناخبين الكبار يساوي عدد نوابها وشيوخها. وهذا يؤدي إلى أن معدل الناخبين لكل ناخب كبير يختلف من ولاية لأخرى اختلافا بينا.
و ترك ترتيب طريقة التصويت وتفاصيل نظامه لكل ولاية مع ضرورة احترام حقوق الناخبين التي ينص عليها الدستور والقانون الفدرالي.

كتاب الدستور خافوا من استبداد الأكثرية. ولذلك تجنبوا استخدام كلمة ديمقراطية واستخدموا بدلا منها كلمة جمهورية. فنص الدستور على أن نظام الحكم الفدرالي جمهوري. وأن نظام الحكم في الولايات جمهوري أيضا. فالولايات تكاد تكون صورة مصغرة للدولة الفدرالية. فلكل منها حاكم (يقابل منصب الرئيس) وكونغريس ومحكمة عليا.

دستور الولايات المتحدة من أقصر الدساتير. ومن أسباب ذلك عدم تعرضه لنظم حكم الولايات. فلكل ولاية دستورها الخاص.
و للتساوي بين الولايات لم يتم القبول بأن تكون أي منها عاصمة فدرالية. وتم اللجوء لتحديد منطقة فدرالية لا تتمتع بصفة ولاية و لا بأصوات في الكونغريس. وتحكم واشنطن من خلال بلدية. وقد حاولت الحصول على صفة ولاية من خلال اقتراح تعديل دستوري وافق عليه الكونغرس ولكن لم يحصل على موافقة ثلثي الولايات، وهو شرط لاعتماد تعديل للدستور.

وبالإضافة إلى منطقة واشنطن العاصمة الفيدرالية، تتكون الولايات المتحدة من 50 ولاية، و 4 أقاليم تابعة لها ومتمتعة بالحكم الذاتي إضافة إلى عدد من الجزر “المملوكة” من أميركا. و مواطنو الأقاليم التابعة والجزر المملوكة لمواطنون في أميركا، ولكنهم لا يصوتون في الانتخابات الرئاسية ولا في انتخابات الكونغرس.

ومن مظاهر مشاركة السيادة بين الدولة الفيدرالية والولاية أن المواطن الأميركي يعتبر مواطنا في الولايات المتحدة ومواطن في الولاية التي يقطنها. فيقال “فلان مواطن في تيكساس” مثلا. مع حرية المواطن في نقل مواطنته الولائية حيث شاء من البلاد متى شاء إن لم تكن عليه قيود قضائية.

سلطة الرئيس على الولايات محدودة. فهو لا يستطيع تحريك قوات فيدرالية إلى أي ولاية بدون طلب من حاكم الولاية أو حدوث تمرد مسلح. ويقتصر تدخل الرئيس على العمل على تطبيق القوانين الفدرالية بالتنسيق مع السلطات المحلية. وفي حالات محددة تدخلت الحرس الوطني لفرض احترام قوانين رفضت الولايات تطبيقها مثل تسجيل طلبة سود في مدارس كانت تقتصر على البيض في الولايات الجنوبية خلال الستينات.

وداخل الولاية نفسها يوجد مستويان من الحكومة هما الحكومة الولائية والحكومة المحلية. الحاكم يمثل الولاية والعمدة يمثل الحكم المحلي. وعادة ما ينسق الرئيس والحاكم والعمدة في الحالات التي تحتاج ذلك مثل الكوارث الطبيعية.

ويحترم ترتيب البروتوكول مستويات السلطة الثلاث. فالشخصية الأولى في كل نشاط رسمي هي الرئيس، ثم حاكم الولاية ثم عمدة المدينة أو القرية حيث يتم الحدث. ويعامل العمدة والحاكم الرئيس معاملة أقرب إلى الندية فكلهم منتخب يستمد سلطته من الشعب.

تاريخيا، كانت الصحة والتعليم والشرطة صلاحيات حصرية للولايات. ولكن الدولة الفدرالية تتدخل فيها حاليا من خلال التمويل والبرامج الفدرالية، وذلك بالتنسيق مع حكومات الولايات والحكومات المحلية. ويعتبر التمويل الفدرالي أهم مدخل لمشاركة الدولة الفدرالية في رسم السياسات المحلية. ويمكن للكونغرس حجب أجزاء منه في حالة نقص التعاون المحلي. وهو إجراء نادر الحدوث.

#قصة_أميركا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock