مقالات

من سوريا : يوم تحت الأنقاض

فضل الله الزغلامي

كنت مستلقيا في سريري أنظر إلى أمي التي تقف في الشرفة وقد بدى عليها التوتر، تتفحصّ في يأسٍ أرجاء الحي علّها تلمح والدي الذي لم يعُد منذ ليلة البارحة.

أعلم أن الوضع في بلدي متدهور جدّا وأنّ الظفر بلقمةٍ تسدّ رمق الجائع أمر ليس بهيّن إلاّ أني لم أعد قادرا على الصمود أمام أنين بطني الخالية. أطلقتُ صرخة خفيفة فهِمتْ على إثرها والدتي بأني في حاجة إلى القليل من الحليب، رمقتني بنظراتها الحنونة وٱبتسامتها الحزينة، أمسكَتْ القارورة وسكبت ما تبقى بها من قطرات الحليب.

إقتربت مني، وما إن مدَدْتُ يدي نحوها حتى ٱنطفأ النور فجأة..

وجدتُ نفسي وحيدا في مكان مظلم جدّا كزَنازِينِ سجنِ تدمر إذا ما أقبل عليه الليل، هواؤه ملوّث لكثرة الغبار والدخان تماما كأحياء سيناء حين تدكّها قذائف الجيش المصري، لم أستوعب ما حصل، حاولتُ تحريك جسدي الصغير إلاّ أنّ المكان كان ضيّقا كقبرِ إنسانٍ ثَقُلَتْ موازينه، كقبرِ سلطانٍ جائر أو جلاّدٍ من جنودِ جمال عبد الناصر.

حينها بدأ الرعب يتسلّل مجددا إلى قلبي الذي تعوّد عليه، فمنذ أن وُلِدْتُ في عام 2014 لم أعرف شعورا غيره.

لم يسعفني سنّي ولا جسدي الصغير في التفكير في حلّ آخرَ غير البكاء، بدأت في إطلاقِ صيحات فزعٍ كقطٍّ صغيرٍ تاهَ عن والدته في زحمة سوقٍ من أسواق العراق هزّتْ أرجاءهُ سيارةٌ مفخّخة، إلاّ أنّ محاولاتي باءت بالفشل، ما من مجيب، حتّى أمي لم تركض كعادتها نحوي.. كنت أمنّي النفس بأن أكون وسط كابوسٍ مزعِجٍ سينتهي حالما توقظني أختي بقبلةٍ على جبيني كما كانت تفعَلُ دائما.

مرّت الساعات وقُبلة أختي لم تأتِ بعْدُ، أدركت حينها أنّ الأمر ليس مجرّد كابوسٍ فقرّرتُ أن ألقي السمع خارج أسوارِ سجني علّي أفهم السبب الذي حال بيني وبين حظن أمي وطعامي. بدأتْ أصوات مألوفة تطْرُقُ سمعي، أصوات خطوات سريعة لأناسٍ يركضون في كلّ الإتّجاهات، أصوات نِسوةٍ تبكي بحرقة وأطفالٍ يئنّون ورجالٍ يُكبّرون، ربّما هو اليوم الموعود! ربّما جاء وعد الله و نُفِخَ في الصّور! هل أنّ السماء ٱنفطرت؟! هل أنّ البحار سُجّرتْ؟! هل أتى اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه وصاحبته وبنيه؟! لهذا لم تأت والدتي إذا..

راودتني كلّ هذه الأسئلة وغرقتُ في تفكيرٍ عميق، إبتسمت وقلت في نفسي بأنّي اليومَ سأخبر الله بكلّ شيء.

وفجأة، قطَعَ تفكيري صوت رجل قريب مني يصرخ ويقول “وجدتُ صغيرا عالقًا تحت الأنقاض، يلعن روحك يا بشّار” أدركتُ حينها بأنّ غارة أخرى إستهدفت مدينتي “حلب” وأنّ البرميل المتفجّر قد قرّر هذه المرّة أن يصيّر منزلنا حطاما، وأنّي عالقٌ تحت أنقاضه..

بدأ النّاسُ يجتمعون حول سجني الصغير، ينظرون في يأسٍ إلى أكوام الحجارة التي تحول بيني وبينهم وبدأ أحدهم يحاول تفتيت الصخور وإبعادها والنبش بيديه حتّى خارت قواه وجلس إلى جانب قبري ينظر إلى الصحفيين الذين كانوا ينقلون عبر آلات التصوير ما يحصل ويصيح فيهم إنْ هذا ما يفعله الجيش العربي السوري بشعبه..

في ذلك الوقت أيقنْت أنّ سكّان حيّي قد فشلوا في إخراجي من هذا المكان المرعب، سيطر عليّ اليأس وظننتُ أني قريبا سألاقي ربي وأغادر هذا العالم.

ألقيتُ السمع ثانية، أردت أن أسمع صوت أمي لآخر مرّة، ولكنّ ضجيجا آخر منعني، ضجيج قادم من قاعة مغطّاة يملؤها صدى أصوات بشرٍ يتكلّمون بلغات مختلفة، العربية والإنقليزية والفارسية والروسية، فهمتُ حينها أنّي أستمع إلى حلقةٍ أخرى من حلقات “جنيف” حيث تعرض المعارضة على “جون كيري” صورا تثبت خرق نظام الأسد لهدنة وقف إطلاق النار ليشجب “كيري” الأمر ويدعو إلى مؤتمر آخر تُسلّمني فيه المعارضة إلى جنود الأسد وتبكيني في المؤتمر اللاحق..

أثار ما سمعته ٱشمئزازي، لعنتُ كلّ الحاضرين للمتاجرة بدمي وهربتُ بسمعي بعيدا، علّي أعثر على صوت من فرحتْ لمجيئي إلى الدنيا رغم قساوة ظروفها، لكن دون جدوى، بل أنّ الأمر ٱزداد سوء حين وصلتني كلمات أحمد بدر حسّون وهو يدعو من بقي على قيد الحياة في حلب إلى المغادرة حتى يواصل الجيش النظامي القصف والتّدمير والإنتصارات المزعومة.

صِرْتُ وقتها أهرب بسمعي ولكن أصوات الوحوش واصلتْ مطاردتي، هذه أستاذة جامعية تونسية تقول بأنّ موتي وأبناء حلب فيه نفعٌ لها، وذلك ممثّل مصري يكذّب صور جثث جيراني، وآخر، يقال بأنّه محلّل سياسيّ، يتّهمني بالإرهابيّ.. لم أعد أحتمل، توقّفتُ عن البحث عن صوتِ أمي وقرّرتُ أن أضع يديّ الصغيرتين على أذنيّ وأنتظِر الموتَ.

في تلك اللحظات غادرَ الرّعبُ قلبي، تملّكتني السكينة والسعادة، فقد كنت متأكدا من أنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى وأنّه لا وجود في دار الآخرة لبراميل متفجّرة ولا لقذائف روسيّة ولا لجنود حزب الله ولا لمعارضة ولا لطواغيت، كنت متأكّدا بأن الخوف والجوع لن يعرفا طريقهما إليّ في الجنّة وأنّ والدي هناك بٱنتظاري، نعم، فليلة البارحة وقبل أن يغادر المنزل قبّلني وقال لي بأنّه ذاهب لينتقم ممّن ٱغتصب والدتي في السجن قبل تحريرها، لم أقدر على إخبار أمّي بالأمر حين كانت في شرفة المنزل تنتظرُ عودته، فأنا لازلتُ غير قادرٍ على النّطق..

وبينما هممتُ بإغماض عيناي، إذ بنورٍ خافتٍ يكسر ظلام سجني ويد تمتدُّ نحوي وتجذبني إلى الخارج، علتْ تكبيرات المواطنين فرحا بنجاتي بعد أربعٍ وعشرين ساعةً قضيتها تحت حطام منزلنا، ظمّني رجل الإنقاذ وأخذ يبحث عن مكان آمنٍ ليسعفني، كنتُ أنظر إلى المدينة، إلى الجثث المتناثرة، وحين وقعت عيناي على جثّة طبيب الأطفال الوحيد في حلب، ذلك الذي أنقذني ذات مرّة، صار كلّ شيء من حولي يتحرّك ببطئ شديد حتّى أني كنت أفهم ما يقوله المواطنون فقط من خلال النظر إلى حركات أفواههم..

رفعتُ رأسي إلى السّماء وتساءلت، هل أن رجل الإنقاذ قد أنقذني من الموت وأعادني إلى الحياة أم أنّه قطع طريقي نحو الحياة الحقيقية وأعادني إلى الموت مجددا لتستهدفني مزيدٌ من البراميل المتفجّرة..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock