مقالات

ما بعد الجلستين

بسام بوننّي

“إنه موسم أبيض جاف.

الأوراق القاتمة لا تدوم، حياتها قصيرة وبانكسار في القلب تغوص بلطف إلى أسفل. إلى الأرض. هي لا تنزف حتى. إنه موسم أبيض جاف، يا أخي. فقط الأشجار هي التي تعرف الألم لأنها ما زالت تقف منتصبة جافة مثل الصلب. فروعها جافة مثل الأسلاك. إنه موسم أبيض جاف فعلا. لكنها مواسم تأتي لتمضي”. مونغانه وولي سيروته

1. لم يكن سامي براهم إسما مغمورا. فلسنوات، تابعت مقالاته على الإنترنت وتوطدت العلاقة لاحقا افتراضيا وهاتفيا إلى أن التقينا لأول مرة، بداية ديسمبر 2010، في منتدى الجاحظ، ثم لاحقا في مقهى بتونس العاصمة. لا أذكر أني تكلمت كثيرا بل تركت سامي يروي لي معاناته. لم أكن أتخيل أن بعد أسابيع قليلة ستُرفع الغمّة عن تونس. لم أكن أتخيّل أيضا أنّ سامي سيقف، بعد سنوات، أمام العالم ليدلي بشهادته. وهنا كان وقعها أكبر بكثير. فقد حملت مع كثيرين ولسنوات عشرات الشهادات وكان عبئا ثقيلا، حتى وإن نشرنا شيئا منه. والخلاص لا يكون سوى عبر تشكيل ذاكرة جمعية. هي الخلاص لنا جميعا. فالإنسان، كما يقول المرجع الهندوسي الشهير، سوامي فيفي كاناندا، لا يتقدم من الخطيئة إلى الحقيقة بل من الحقيقة إلى الحقيقة، من الحقيقة المهمة إلى الحقيقة الأهمّ. وأعتقد أنّ أمّ الحقائق تلك التي تمخّضت عن معاناة لا يمكن تجاوزها مهما تغيّرت الظروف.

2. قد أكون مخطئا حين أقول إن غياب يوسف الشاهد عن أولى الجلسات العلنية لضحايا الديكتاتورية لم يكن مهمّا. لكنّي لطالما اعتبرته وزيرا أول لا رئيس وزراء. كما ينصّ عليه الدستور. أي مجرّد موظف حكومي سام لا أكثر ولا أقلّ. لم أكن أنتظر حضور رئيس مجلس نواب الشعب، محمد الناصر، صاحب الحضور المحتشم في الشأن العام، رغم منصبه. لم أكن أنتظر أيضا حضور الرئيس، الباجي قائد السبسي، الذي لم يعترف أصلا بالعدالة الانتقالية. ودعك من “حجة” سهام بن سدرين الواهية. ذاك بالكاد تفصيل إجرائي أمام جسامة المبدأ. السبسي، للتذكير هو من مررت حكومته، ليلة انتخابات المجلس التأسيسي، مرسوما يسقط تهمة التعذيب بالتقادم، مديرا ظهره لجميع المواثيق والمعاهدات الدولية. لكن، حتى لا نظلم الرجل، هو ليس استثناءً في صفوف رجال المنظومة القديمة. إذ من الصعب على من كان في “فريق السلطة” طيلة عقود أن يتجرد من ذاته الملتصقة أصلا بالحكم، حتى وإن كان هو نفسه قد وقع ضحية لتلك السلطة بشكل من الأشكال، ليس أقلها التهميش بعد “الخدمات الجليلة’. وذاك لا يعفيهم من المسؤولية.

أذكر أننا كنا مجموعة من الصحفيين في باريس، في ندوة للراحل محمد مزالي. كان الرجل، الذي ذاق الأمرين بعد خروجه من دائرة الصراع على خلافة بورقيبة، يقدم كتابه. لكن، كان الأمر أشبه بخطاب روتيني خشبي لم يقطع رتابته سوى سؤال الصديق والزميل علي بوراوي: “سي محمد لم نر أي اهتمام في كتابك بالجانب الحقوقي”. رد مزالي ببرود: “ليس هذا هدف الكتاب”. عاد علي للسؤال: “طيب ما رأيك في التعذيب الآن؟”. أجاب مزالي: “لا علم لي بذلك”. صرخ علي: “أنا تعرضت للتعذيب”. ترك مزالي مكانه وغادر القاعة على عجل.

3. دعاني أخ عزيز، في سبتمبر 2005، إلى منزله في الدوحة. تبادلنا أطراف الحديث. اكتشفنا صداقات مشتركة تجمعنا. كان لقاء ممتعا قطعته علينا ابنته غفران. لم تكن البنيّة قد زارت تونس بعد، فوالدها ممن طرق أبواب المنفى القسري. أصرّت غفران على تقديم مسرحية عن بلادها التي لا تعرفها. صنع الملاك لنفسه عالما لا حسابات سياسية فيه ولا ضربات، صديقة كانت أو عدوة، لا غريزة فيه للانتقام أو التشفي أو تصفية الحسابات. فقط براءة الطفولة حين تعانق الحنين لوطن بقي هاجسا يراودها في أحلام النوم كما في أحلام اليقظة. نص المسرحية الطفولية البريئة كان ثقيلا بعبارة “تونس” التي تتردد بين كلمة وأخرى. مسرحية ذبحتني من الوريد إلى الوريد، صنعت فيها غفران عالما خاصّا بها، يحلم به أيّ طفل أو طفلة في سنّها. صنعت فيها الجدّ والجدّة، بل ووجدت نفسي كومبارسا بإدغامي كعمّ لها.

حين أتذكّر تلك المسرحية وأرى ما كاله الجلاد -فاعلا كان أو مدافِعا أو مُبرِّرا- للضحية من اتهامات، غداة أولى الجلسات العلنية، أحنّ حقّا لبراءة الطفولة حتى تنتشلني من شيطنة الكبار. لبراءة قد نقتلع بها غفرانا جماعيا من أجل ما امتحنا فيها من خيرة بناتنا وأبنائنا.. من أجل تونس !

4. مهما توفقنا في مسار العدالة الانتقالية فإنّ هناك جرائم لن يدفع مرتكبوها الثمن لأنّ المدوّنات القانونية لا تجرّمها. أعني، تحديدا، جريمة أن لا تقدّر وطنك حقّ قدره !

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock