مقالات

ماهي خفايا الإعلان عن توسعة القاعدة العسكرية بطرطوس؟

ليلى الهيشري
انطلقت الثورة الشعبية السورية كغيرها من الشعوب في تجاوب واضح لثورة الياسمين، ولكنها تعرضت لخيانة مقصودة، وتحولت الثورة إلى معارك بين قوى عالمية، تسعى إلى بسط سيطرتها على قلب الشرق الأوسط، وكانت سوريا الوليمة التي أثارت شهية المتكالبين على اقتسام مكاسبها ومواردها وحتى قوت شعبها الضعيف.
بين كل تلك التساؤلات التي يطرحها العقل البشري وخاصة العقل العربي، لماذا تقوم روسيا بتقديم دعم غير محدود للنظام السوري بالذات؟ كل الدلائل تشير إلى إجابة منطقية وحيدة تتمثل في سعي قيصر روسيا الحديثة إلى إعادة بناء قوة عسكرية وسياسية واقتصادية عالمية تنافس فيها القوى الأخرى واهمها الولايات المتحدة الأمريكية، ولن يكون ذلك ممكنا بدون اكتساب قواعد عسكرية تنافس القواعد التي وضعتها دولة العم سام في العالم، والتي جعلت منها صاحبة أكبر نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري في القارات الخمس.
تقع القاعدة العسكرية الروسية في ميناء طرطوس السوري، وقبل الدخول في وصف خصوصية هذه القاعدة، وجب البحث في سبب اختيارها لذلك الميناء بالذات، طرطوس هي مدينة ساحلية اشتهرت بالملاحة البحرية، وكانت من اهم الموانئ التي ساهمت في بروز الأسطول الفينيقي في التاريخ القديم، وكان لإطلالتها الساحلية على البحر المتوسط دورا كبيرا في شهرتها وازدهار التجارة في تلك المنطقة. لم يعرف الميناء تحسينا معماريا يذكر إلا في فترة الستينات من القرن العشرين، ليلائم مخططات الدولة القائمة بعد الاستقلال.
ومنذ انطلاق الثورة السورية وخاصة في بداية سنة 2012، ظهرت بوادر اهتمام الروس بميناء طرطوس من خلال قدوم حاملة الطائرات الروسية” أدميرال كوزنيتسوف” مع مدمرة وفرقاطة في ميناء طرطوس، وفي سعيها لتبرير وجودها في تلك الأوضاع الداخلية المضطربة لسوريا، صرحت روسيا أنها لم تجلب قوتها العسكرية للتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا بل جاءت لأغراض أخرى، حسب التصريحات الإعلامية للسياسيين الروس والإيرانيين، وأنها مجرد زيارة اقتضتها اتفاقية التوأمة التي نشأت بين النظام السوري والروسي.
تعودت القوات الروسية التواجد في ميناء طرطوس منذ سبعينات القرن العشرين بالاعتماد على اتفاقية عسكرية جعلت من الدولة الروسية أكبر مورد للأسلحة بالنسبة للنظام السوري في عهد حافظ الأسد، وكان هذا الميناء منطقة آمنة تسمح برسو ومرور الغواصات والأساطيل البحرية العسكرية لهذه الدولة بناء على علاقة توأمة قوية برزت إلى العلن في هذه الأحداث الأخيرة.
وهو ما قد يحيلنا إلى حقيقة، تعود إلى عقود سابقة، تؤكد تحول  ميناء طرطوس بموجب اتفاقيات استراتيجية بين النظامين إلى قاعدة عسكرية تقوم الدولة الروسية باستغلالها لفائدة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة على مرآى ومسمع من النظام السوري الذي استفاد من امتيازات عسكرية تتعلق بتوفير الأسلحة والمعدات العسكرية دون عناء مقارنة بالدول الأخرى التي تستجدي الدول المصنعة للأسلحة في كل محاولة لشراء معدات عسكرية، فضلا عن  امتيازات مالية تتعلق بإلغاء بعض الديون المتخلدة بذمة النظام السوري لفائدة روسيا حسب مزاعمهم طبعا.
تعود أهمية مرفأ طرطوس مقارنة بالموانئ السورية الأخرى بالنسبة للنظام الروسي إلى عدة أسباب، إذ يعتبر من اهم المرافئ وأكبرها وأكثرها قدرة على تقديم الخدمات المتخصصة في المجال الملاحي البحري. يحتوي مرفأ طرطوس على تنوع خدماتي يتمثل في قدرته على استقبال كل أنواع السفن حتى العسكرية منها، وتوفير سبل حمايتهم وإرشادهم، كل هذا يترافق مع توفر خط ملاحي بحري يربط كامل منطقة الشرق الأوسط بالبحر الأبيض المتوسط، وبذلك تتأكد مطامع الروس المبنية على محاولة ضمان تأمين خطها الملاحي الاستراتيجي الذي يؤمن نشاطها التجاري العسكري في مساحة ممتدة تمنحها نفوذا وسيطرة، فضلا على توفير الميناء لنقطة ارتكاز مخابراتية تساهم في دعم حظوظها التنافسية في تجارة الأسلحة وتدعيم قوتها السياسية في المنطقة أيضا كمحاولة لاسترجاع النفوذ الذي كانت تتمتع به قبل سقوط النظام السوفياتي في ثمانينات القرن العشرين.
وبذلك يعتبر النظام السوري الأمل الوحيد لمخططات روسيا التوسعية الحديثة، فقد كانت المعارك في سوريا بمثابة خيط نجاة للنظام الروسي الذي يريد ضمان بقاء نظام الأسد تحديدا، باعتباره الحليف الوحيد والمباشر لروسيا التي لم تستطع بلوغ المستوى المتقدم  لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، ولا شك أن تغيير نظام الحكم في سوريا سيمثل بالنسبة لها خطرا جسيما قد يكلف إمبراطورية بوتين الكثير، فاستماتة النظام الروسي في حماية النظام السوري من السقوط طيلة هذه المدة كان اكبر دليل على رفض روسيا التفريط في قاعدتها العسكرية الراسية على ميناء طرطوس، ولعل نية روسيا في إرسال كتيبة من مشاة  البحرية لتدعيم الأمن في ميناء طرطوس مثلت اكبر دليل على نواياها “الاستيطانية”.
لم تكشف نوايا روسيا الحقيقية إلا حديثا وذلك تزامنا مع نهاية 2016، عندما أعلنت رسميا عن نيتها في توسيع قاعدتها العسكرية بميناء طرطوس، لتزيد بذلك من سعة استقبال السفن عسكرية حسب ما ورد في التصريحات الرسمية للكرملين. وقد لا أجد في فظاعة هذه التصريحات سوى استنتاجين أردت التوقف عندهما نظرا لأهميتهما:
أولا: النظام السوري انتهى في الواقع، ولم يبقى منه سوى تمثيلية لديكتاتورية شرفية ونظام مدعوم من دول قوية كروسيا وإيران. فقوته العسكرية ليست سوى مريض في أنفاسه الأخيرة، تقوم روسيا ميدانيا وايران لوجستيا بالنفخ في روحه لبعث الحياة في جسده المريض، لتمرير مخططاتهم المحتاجة إلى غطاء رسمي، بل أتوقع قيام النظام الأسدي، منذ فترة زمنية بعيدة، برهن سلطته لروسيا بموجب اتفاق سري، يمكن أن تبلغ مرحلة الاستعمار الخفي، ولربما كان النظام الروسي قد فرض نظام الحماية فعليا على سوريا مقابل تمكين النظام الأسدي من فرصة النجاة من هوة النيران المشتعلة في المنطقة، ولعل تمثيل روسيا للنظام الأسدي في كل المعاهدات المطروحة لحل الأزمة دليل على حالة الانبطاحية التي يعيشها النظام الأسدي مقابل بقائه في عرينه المتداعي.
ثانيا: يمثل مخطط توسعة القاعدة العسكرية في طرطوس، مؤشرا خطيرا في المنطقة ككل، وهو دليل ثابت على وجود مطامع مستقبلية لروسيا لا تحوم حول منطقة الشرق الأوسط فقط، بل تمتد الأعين الروسية إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط وخاصة دول شمال أفريقيا، التي تعيش مرحلة مخاض صعب للوصول إلى مرحلة الاستقرار، بعد قيام العديد من الدول بثورات متفاوتة النتائج والنجاحات، ومن المؤكد أنها لا ترى مستقبلا مستقرا لهذه الدول دون مشاركتها فيه، وهو ما قد يبعث الريبة في قلوب العديد من المحللين السياسيين الذين لا يرون خيرا في تدخل روسيا المثير للجدل، فضلا عن سيطرتها الميدانية اليوم على المناطق الخاضعة لسلطة النظام السوري بل يمكن لهذه التوسعة أن تكون بداية لمطالب أخرى اكثر خطورة ودموية، طالما لازال النظام السوري الأسدي قائما.
قد يكون هذا الإعلان عن مخطط التوسعة بالنسبة للرأي العام مجرد دعم لنظام حليف، ولكن من غير المنطقي قيام دولة غربية بحماية نظام ديكتاتوري لدولة عربية باندفاع غير محدود، رغم ما تسبب لها هذا الدعم في أضرار نالت من موقعها السياسي العالمي تمثل في تداعي علاقاتها مع العديد من الدول التي ترفض ممارسات النظام السوري وبقائه في سدة الحكم.
في كل الأحوال، وبناء على ما نشهده من أحداث متعاقبة في الأرض السورية، لن ترضى روسيا الخروج من الحرب السورية كطرف خاسر، هذه هي المعضلة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وبذلك نحن أمام مصير مجهول لسوريا، إذ لا تنحصر مخاوف العالم في بقاء نظام الأسد أو سقوطه، كل المخاوف أن تعتمد روسيا سياسة الأرض المحروقة اذا ما عجزت عن الحفاظ على مصالحها في المنطقة وتحديدا في سوريا، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران وحزب الله، وهو ما قد يضعنا في مأزق الضبابية التي قد تشوب الرؤية المستقبلية لمصير هذا البلد الذي اصبح حلبة صراع  دفع ثمنها شعب بأكمله.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock