تدوينات تونسية

جباية المحامين.. «زوبعة حكومة الشاهد في فنجان مجلس نواب الشعب»

طارق العبيدي

انتهت فقاعات جباية المحامين التي زرعت بذورها حكومة يوسف الشاهد في مشروع قانون المالية لسنة 2017، ابتدأت بفكرة غبية من الحكومة لإحداث جزية على رؤوس المحامين في شكل «مكس» للدخول الى المحكمة اسمه الطابع الجبائي على المحاماة، وتحولت الى فكرة اكثر غباء اقترحتها اللجنة المالية بمجلس نواب الشعب تتمثل في احتكار الدولة لبيع وثائق المحاماة مثل احتكارها لبيع التبغ.

انتهت كل هذه الأفكار الغبية في الجلسة العامة للبرلمان ذرا للرماد في عيون الشعب. واكتشف الجميع بان الحكومة كانت تستغبينا بالتغاضي عن اصحاب الثروات الكبرى الحقيقيين والمعلومين للإدارة الجبائية اسما ومكاسب والذين تشكلت ثرواتهم في البلاد طيلة الستين سنة التي تلت الاستقلال على حساب جهات بأكملها تفوق مساحتها ثلاثة أرباع مساحة البلاد ومن قوت شرائح اجتماعية لا يستهان بحجمها.

تعالت أصوات جدية بإخضاع أصحاب الثروات لضريبة استثنائية على الثروة ليس انتقاما منهم أو عقابا لهم بل لأنهم الشريحة الوحيدة من شرائح الشعب التي بقيت لها المقدرة على تحمل ضغط جبائي إضافي ظرفي يساهم في إخراج البلاد من أزمتها، وغيرهم من الشرائح متوسطة وضعيفة الدخل استنفذت طاقة تحمل أي عبء جبائي إضافي. أوهمت الحكومة الشعب بأنها تلاحق سراب الثروة لدى المحامين والأطباء لتخضعها للضرائب وتعيد توزيعها على الفقراء والمحتاجين في المناطق المحرومة من التنمية حرمانا بيّنا لا رجعة فيه منذ أن كان عدد المحامين في تونس كلها لا يفوق 100 محام غداة الاستقلال.

هذا العدد أصبح الآن 8000 محام اغلبهم من أبناء الكادحين. لا شك ان هناك عددا قليلا من المحامين والأطباء الأثرياء من مهنهم ولكن عددهم صغير جدا امام العدد الهائل من زملائهم الذين يعيشون بدخل عادي واقل من العادي ومنهم عدد هام لا يقوى على توفير دخل يفي بالضروريات المعيشية للمحامي.

نعم هناك عدد من المحامين الفقراء مثلما هناك عدد من الأطباء الفقراء وعدد من المهندسين الفقراء وعدد مهم من المحامين متوسطي الدخل ولولا تضامنهم في وجه الفساد الذي ينخر مهنتهم مثلما ينخر القضاء ووزارة الداخلية والمؤسسات المرتبطة بعملهم مثل البنوك وشركات التأمين وغيرها من المؤسسات الاقتصادية التي صدرت فسادها لبعض المحامين قاطعي أرزاق الأغلبية من زملائهم لأصبحوا في عداد المحتاجين. الضريبة الاستثنائية على الثروات الكبرى لن يعفى منها المحامون ولا الأطباء ولا غيرهم من أصحاب المهن الحرة إذا كانوا أثرياء، ولكن بوصفهم أثرياء وليس بوصفهم محامين أو أطباء. لماذا؟ لأن هذين القطاعين المحاماة والطب في أزمة جدية تطال اغلب المنتمين إليها وعنوانها الكبير مهني معاشي سببه دولة الفساد الموروثة من النظام الاستبدادي وتركتها كبيرة ومعقدة المسالك، وإصلاحهما مطروح بقوة لحل مشاكلهما المهنية المعاشية ولتكريس مبادئ الدستور الجديد دستور الحرية والكرامة فيهما.

إصلاح حال المحاماة والطب سيكون في اتجاه المنفعة الجبائية للمجموعة الوطنية إذا ما راعى الضوابط الأخلاقية والمهنية والأهداف النبيلة لهتين المهنتين. فالطبيب مهما قيل فيه وعنه ومهما أخذ من مالنا ومهما ارتكب من أخطاء مهنية يسعى إلى الرقي بصحتنا الجسدية والنفسية والمحامي مهما قيل فيه وعنه ومهما أخذ من مالنا وارتكب أخطاء مهنية يسعى إلى الدفاع عن الحقوق والحريات ومكافحة الظلم وإقامة العدل. ولا شيء أنفع للشعب من العناية بالصحة الجسدية والنفسية لأفراده ومن إقامة العدل فيه والذود عن حقوقه وحرياته.

هذا طبعا لا يعني إطلاق الأيادي في هذا المجال بلا رقيب وبلا حسيب بل يجب حماية هاتين المهنتين من كل أشكال الفساد حتى يبقى الهدف النبيل سيدا في المحاماة وفي الطب، وهي من أهم مهام الهيئة الوطنية للمحامين وهيئات الأطباء.

مع كل هذه المسلمات في نبل مهنة المحاماة مثلها مثل مهنة الطب فان الأحكام الجبائية المتعلقة بالمحامين والتي تضمنها مشروع قانون المالية لسنة 2017 أحدثت زوبعة عصفت بأصحاب العباءة السوداء الذين يحلو لهم بان يقولوا على مهنتهم بأنها مهنة شاقة لا يمارسها إلا الجبابرة.

على الدولة أن تدخل للمحاماة من باب جباية المؤسسات وليس من باب جباية المحامي حتى يستقيم عود الضرائب وينعكس ظلها على مهنة المحاماة دون مساس بأي مبدإ من مبادئ استقلالها وبقائها فعلا مهنة للدفاع عن الحقوق والحريات تساهم بقوة في إقامة العدل ومكافحة الظلم بدل جعلها سوقا لضرب المكوس على أعناق مريديها من المحامين والمتقاضين كيفما سعت إليه حكومة يوسف الشاهد في مشروع قانون المالية لسنة 2017.

باب جباية المؤسسات هو الباب الوحيد الذي يكون مدخلا محبذا لإصلاح حال المحاماة، بإحكام التوزيع العادل للنزاعات الخاصة والعامة على المحامين على قاعدة الخبرة والكفاءة والتكوين والأخلاق المهنية وفي نفس الوقت ضمان تطبيق الأحكام الضريبية في القطاع عبر وسائل وتقنيات جبائية عملية مستمدة من مفهوم المؤسسة كوسيلة للتشغيل وخلق الثروة. وعندما ننظر جبائيا لهذه المهنة من منظور جباية المؤسسات فإن أول ما يمكن اللجوء إليه للمساهمة في حل أزمة المحاماة المستفحلة وأزمة جبايتها هو شركات المحامين.

فكرة شركات المحامين مبنية على فكرة جباية المؤسسات وهي أهم فكرة يمكن ان تحل عطالة أغلبية المحامين ومآسيهم أمام احتكار أقلية منهم للنزاعات والاستشارات. كيف ذلك؟ من حق كبار المحامين أن يطمحوا إلى الشهرة وتحقيق الثروة على قاعدة الكفاءة والخبرة والتميز المهني، لكن المحامي كفرد مهما علا شانه المهني ومهما كانت كفاءته وعبقريته لا يمكن أن يكون نافعا للمجموعة إلا باستثمار مؤهلاته المهنية وشهرته وعلاقاته المهنية بإحداث شركة محامين مع غيره من زملائه الناجحين تكفل لهم مكانتهم المهنية وطموحهم المجتمعي وفي نفس الوقت تشغل العطالة المستفحلة داخل عدد كبير من المحامين عبر التعاقد وإسداء الخدمات حتى يمكن القبول باحتكار شركة حقيقية من شركات المحامين لها عديد الفروع والمكاتب وتشغل عديد المحامين لنيابة أحد المؤسسات الاقتصادية الكبرى في البلاد كشركات التأمين والبنوك والمكلف العام بنزاعات الدولة وغيرها.

هذه هي مفاتيح جباية المحامين التي تضمن لهم العمل والكرامة وتضمن للمجموعة الوطنية المساهمة في خلقهم الثروة وتشغيل عدد هام من المختصين في القانون وغيرهم من مساعدي المحامين داخل المكتب وخارجه. لا شك أن ذلك يستدعي فتح ورشة إصلاح كبرى للمحاماة عنوانها الكبير شركات المحامين وشروط توزيع النزاعات والاستشارات عليها. إنها مهمة الهيئة الوطنية للمحامين من اجل الانتقال بعلاقة المحاماة مع الدولة من علاقة العصيان التي كانت تجد مشروعيتها في استبداد الدولة القديمة إلى علاقة تعاون تحتمها المكانة الجديدة للمحاماة في دستور الحرية والكرامة الذي جعل منها مؤسسة دستورية لها تمثيل عددي لا يستهان به داخل المجلس الأعلى للقضاء.

لقائل أن يقول بأنه يوجد في البلاد قانون لشركات المحامين ومع ذلك لم نر نفعا منه لأغلبية المحامين العاطلين عن العمل. هذا صحيح! ولكن كان لدينا ايضا دستور قبل دستور الحرية والكرامة مفصلا على مقاس المستبدين والآن دستورنا مفصل على مقاس الديمقراطيين ويجب أن يعاد تفصيل قانون شركات المحامين على مقاس دستور الحرية والكرامة ليضمن للمحامين حرية واستقلال مهنتهم وكرامة منظوريها. فالأزمة ليست أزمة نظام ضريبي فهو موجود منذ سنة 1986 وهو نظام ضريبي عصري لا يحتاج الى اصلاح بقدر ما يحتاج إلى التطبيق، ولا يمكن تطبيقه على قطاعات ينخرها الفساد إلا بعد إصلاح حالها. فالأزمة ليست أزمة نظام ضريبي وإنما أزمة تطبيق النظام الضريبي.

محام لدى التعقيب مختص في القانون الضريبي والسياسة الجبائية

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock