تدوينات تونسية

“برزخ العشّاق”

ليلى حاج عمر
وأنا أمام الأوبيرا في باريس رفعت روايتي “برزخ العشّاق” عاليا والتقطت ابنتي صورة لها. في تلك اللّحظة شعرت أنّي أتلبّس شخصيّة بطلي في الرّواية الذّي عاش في منفاه الباريسي زمنا قبل أن يعود. بين الرّواية والواقع عشت أحلى لحظات مع مريم والأولاد والأحبّة تماما كبطلي.
وأنا أفتح الرّواية لأقرأها أمام الأوبيرا رأيت البوليس المسلّح الذّي يحرس المكان يبتسم لي. ابتسمت له في المقابل وقلت في سرّي: ماذا لو أروي له أنّي نقدت فرنسا الاستعماريّة وموقفها من الثّورة التّونسية في الرّواية؟ =D اكتفيت بالابتسام له وتذكّرت في الأثناء أنّ باريس تماما كما ذكرت في الرّواية هي “تلك المدينة العجوز التي تنام ليلا لتحرس أحلامها الاستعماريّة وتستيقظ صباحا لتغنّي الحريّة.” وأحببت في باريس غناء الحريّة لذلك مررت فقد كانت البرامج تتوالى والأمكنة تغرينا بالذّهاب في كلّ الاتّجاهات.
دعاني الأولاد إلى مسرحيّة هزليّة في نقد البرجوازيّة الفرنسيّة بمسرح أوروبا: أوديون وفي بهو المسرح رأيت تلك المرأة ذات القبّعة السّوداء من إمضاء هربرت دي فنشي التي تحدّثت عنها في روايتي أثناء حضور بطلي لعرض موسيقيّ في الأوبيرا. نظرت لابنتي وقلت لها همسا: “انظري مريم إنّها إحدى شخصيّات روايتي.. إنّها تخرج من الرّواية ” =D نظرت إليّ مريم ضاحكة لكنّي كنت أتأمّل السيّدات القادمات إلى المسرح الفخم مرتديات أفخم الملابس ومعاطف الفرو لحضور المسرحيّة التي تعود إلى جورج فايدو ولكن تمّت إعادة صياغتها بطريقة طريفة تنفجر إثرها ضحكا من تناقضات البرجوازيّة ومهازلها وحماقاتها. بعد المسرحيّة قلت للأولاد: “هي البرجوازيّة في كلّ مكان.. تشبه بعضا ممّا لدينا.. أو كثيرا”.
باريس الثّقافة مغرية. هكذا كتبت في روايتي وانسقت وراء إغراء الثّقافة فكان الحيّ اللاتيني حيث مرّ توفيق الحكيم وطه حسين وسهيل ادريس وأغلب مثقفي القرن الماضي. جبناه كلّه ودخلنا مطاعمه التي تمثّل ثقافة أخرى وإغراء آخر. وفي إحدى المقاهي هناك رأيت “ماري” إحدى بطلات روايتي وصديقة البطل الشّهيد. وكدت أذهب إليها لولا أنّي أدركت أنّ ماري هي من محض خيالي. كان الأمر سرياليا أن تعيش بعض أحداث روايتك بعد كتابتها. كنت أرى الشّخوص والأمكنة والأحداث. عادة ما تكتب الرواية بعد أن نعيش أحداثها. أمّا هنا فقد كتبتها ثمّ عشتها. وكان الأمر عجيبا جعلني في حالة ذهول مستمرّة تجعل ابنتي تسألني باستمرار: ماما فيم تفكّرين؟ فأقول: “لا شيء.. بعض الخواطر تمرّ برأسي.. سأكتبها لاحقا”.
ليلة عيد ميلاد ابنتي كانت اللمّة في البيت تماما كما في الرّواية. وكان معنا المهندس الشاب المبدع علي بوعتور الذي تضمّنت روايتي أحد نصوصه الرّائعة. كنت سعيدة بحضوره وكانت الرواية هديّة لمريم ولأصدقائها الرّائعين مع كلمة محبّة. كانت تلك لحظة السّعادة القصوى. أن تهدي لابنتك رواية كتبتها بماء الرّوح هو حلمي وقد تحقّق. وكانت الرواية موضوع السّهرة. كنّا نغزو باريس باللّغة العربيّة كبطل روايتي. تحدّثنا كثيرا باللغة العربية فأنا حين أتحمّس لا أتكلّم سواها رغم حضور بعض الأحبّة ممّن لا يفهمون العربية.
أمّا أجمل اللقاءات فمع العائلة الموسّعة. مع أخي وعائلته ومع أحبتي القادمين من جنوب فرنسا. مع أبناء أخي يوسف وسارّة الشّغوفين بالرّسم عشت لحظات طفولة فاتنة. جلسنا على أحد المقاعد وأخذنا أقلاما وورقا ورسموا أجمل الرّسوم أمّا أنا فقد كنت أرسم بخيالي رسوما كثيرة لمستقبل زاهر لهم.
في غابة بولونيا خارج باريس كان الجليد يغطّي جداول الماء وكانت قطرات الماء مجمّدة على الأغضان في أشكال فنيّة ساحرة. وبينما كان الأصدقاء المرافقين لنا يحاولون تحطيم الجليد في الجدول بإغصان كبيرة وجدوها ملقاة في الغابة سعيا إلى إحداث ثقوب وبلوغ الماء والانفجار ضحكا مع كلّ انتصار على الجليد، كنت أجلس على أحد المقاعد أمام البحيرة وأنظر حركة البطّ والإوزّ في الماء وحملني المشهد إلى غابات بني مطير وعين دراهم تماما كبطلي وكنت حزينة وأنا أتذكّر إلى أيّ مدى ظلّت مناطقنا السّاحرة والخلّابة مهملة ومنكوبة تماما كما كنت حزينة وأنا أرى وأتذوّق أنواع الجبن الفرنسي وأنواع العصير وأتذكّر آلاف اللّترات من الحليب المراقة في أوديتنا وآلأطنان الملقاة من القوارص.
أيّ عقل نحتاج كي نحوّل كلّ هذه الثّروات المتلفة إلى رفاهة للإنسان؟
أخذت روايتي وقرأت هناك أمام البحيرة عبارة البطل الميّت في لحده يقول: “أحلم بمعجزة.. أنا الميّت أحلم بمعجزة.. فهل ما زال الأحياء فوق يحلمون؟”.
هو حلمي أيضا.. أنا التي تحاول أن تحيا.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock