تدوينات تونسية

الشعوب حقيقة موضوعية..

الحبيب بوعجيلة
اليوم ذكرى احدى صفحات الانتفاض على الاستعمار الفرنسي. وهو يوم مشرف في تاريخ هذا الشعب.
بعد ثلاث سنوات من تاريخ هذا اليوم ستضطر فرنسا للتفاوض مع التونسيين لتمنحهم الاستقلال الداخلي ثم منح بورقيبة وثيقة الاستقلال التام بعد عام واحد تحت ضغط الثورة المسلحة كما بين المقاوم حمادي غرس في شهادته المثيرة امام هيئة الحقيقة والكرامة.
استحضار هذه التواريخ واحياؤها باحداثها وشخوصها وفواعلها الشعبية الحقيقية هو استحضار مهم لا من اجل نوستالجيا عاطفية شعرية فقط بل من اجل قراءة موضوعية لعوامل الحياة في منطقتنا العربية التي تمنح حاليا للمتابع كل مبررات الاحباط في نفس الوقت الذي تمنحه فيه كل عوامل الامل بان الشعوب تبقى عنصرا اساسيا في حركة التاريخ و تغييره.
عاشت شعوبنا العربية اواخر القرن التاسع عشر حالة غير مسبوقة من اوضاع الجهل والامية والتفقير والتخلف والضعف امام نظم استبداد قروسطي لحكام فساد وتبعية. كان من العجيب ان يحافظ الادباء والشعراء والمفكرون والصحفيون والسياسيون على ذلك القدر من الامل الذي بدا في كتاباتهم في امكانية استنهاض الهمم وتحريك السواكن.
لا شك ان قصائد الشابي او الرسائل المتبادلة بينه وبين اصدقائه مثل الحداد كانت تتضمن احيانا قدرا من الاحباط والياس من “شعب ميت” في غيبوبة لكنها تضمنت قدرا من الثقة والامل في ارادة هذه الشعوب وقدرتها على الخروج من رماد سكونها وقد كان املا في محله لان نصف القرن العشرين كان علامة على حيوية جسد شعبي ظل ينبض بحياة تنتظر فقط نخبة ترعاها لتحولها الى قوة اعصار هادر وقد كان.
نفس العقائد والثقافة والدين والعادات التي كانت سببا للتخلف والموت تحولت بقراءة وتوظيف جديدين الى خزان ارادة ومحركات ضمائر وبها كانت مقاومة وثورات على الاستعمار ومن معينها ارتوت الارض بدماء شعوب عربية واسلامية ظن الاستعمار انها ماتت وستنقرض كما حصل لشعوب وحضارات اخرى غابرة.
في القرن الحالي صُرفت اموال رهيبة على حروب واستراتيجيات في منطقتنا العربية وقد نجحت في تزييف الوعي واختراق النخب وتحريف المسارات وافتعال المعارك المغلوطة وتمييع القيم والاذواق. لكننا اذا قارنا بين حجم الامكانات التي صرفت من اجل استئصال الحياة من هذا الجسد العربي المثخن بجراح المؤامرات الخارجية والتخلف الداخلي وبين بقاء النبض مع ذلك في هذا الجسد فلاشك ان مقاربتنا ستخرج من دائرة الياس الى مدارات الامل.
استمرار الشعب الفلسطيني في انهاك العدو المدعوم بكل شرور العالم الاستعماري وصفحات انتصار المقاومة وتقدمها المطرد في اعداد قوتها العلمية والعملية واستمرار مطالبة شعوب المنطقة بحقوقها السياسية والاجتماعية وتمنعها عن الانخراط في حروب طائفية ومذهبية وعرقية بغيضة مازالت ادواتها مجرد مجموعات وميليشيات من شباب مغرر به وشيوخ ومثقفين وكتاب مدفوعي الاجر او مضيعين للبوصلة لم يتمكنوا من فتنة الشعوب للانخراط في حماقاتهم.
ذاك يؤكد ان الشعوب تبقى في هذه المنطقة معطى رئيسيا ولاعبا اساسيا وجسدا حيا يحتاج فقط الى من يتعهد روحه ويستثمر فيه.
لابد أن تفهم النخبة انها لن تنجح مهما توهمت ان الفعل لن يكون الا عبر سياسة تصاغ من وراء الشعوب وبتسويات مع اعدائها او بين “النخب” في غرفها المخملية.
ارادة الشعوب تفاجئ نخبها بما لا تتوقعه فيكون ما غزلته هذه النخب بعيدا عن شعوبها منقوضا كالعهن المنفوش.
البناء على ارادة الشعوب تفكير موضوعي واقعي وليس خيالا او عاطفية كما يتوهم ادعياء البراغماتية المضروبة. ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض فنجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock